الأميركيون والتفاوت الاقتصادي
في أيامنا هذه، نجد أن كل شخص تقريباً لديه شعور- مبرر - مؤداه أن مفاصل أميركا آخذة في التفكك. لكن هذه ليست بالقصة الجديدة، ولا هي قصة تتعلق بالسياسة. فالحقيقة أن الأمور قد بدأت تنهار على جبهات متعددة، منذ سبعينيات القرن الماضي؛ حيث سار الاستقطاب السياسي جنباً إلى جنب مع الاستقطاب الاقتصادي، وازدادت حدة التفاوت في الدخول. والاستقطاب السياسي والاقتصادي، لهما، كما هو معروف، بعد جغرافي قوي. فعلى الجانب الاقتصادي، وجدنا أن بعض أجزاء أميركا، وخاصة المدن الساحلية الكبرى، قد أصبحت أكثر ثراءً، و تركت أجزاء أخرى وراءها. وعلى الجانب السياسي، وجدنا أن المناطق المزدهرة قد صوتت في معظمها، لصالح هيلاري كلينتون، بينما صوتت المناطق التي تحاول اللحاق بها، لصالح ترامب. ليس قصدي من ذلك القول إن كل شيء على ما يرام في المدن الساحلية، ولكن ما أستطيع تأكيده هو أن التفاوت الاقتصادي الإقليمي حقيقي، وأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً- ولكن ليس تاماً- بالتفاوت السياسي.
لكن ما سبب هذا التفاوت؟ وما الأمر مع «ترامب لاند»؟ التفاوتات الإقليمية ليست بالظاهرة الجديدة في أميركا. فقد كانت موجودة قبل الحرب العالمية الثانية؛ ولكنها حتى سبعينات القرن الماضي كانت تتقلص بوتيرة سريعة.
فهناك على سبيل المثال، حالة ميسيسيبي، أفقر ولاية في أميركا. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، كان نصيب الفرد من الدخل في هذه الولاية يبلغ 30 في المائة فقط من دخل الفرد في ولاية ماساشوستس. ومع ذلك، فإن هذا النسبة وصلت، في أواخر السبعينيات،إلى 70 في المائة تقريباً، وكان معظم الناس يتوقعون استمرار عملية تقلص التفاوت هذه، ولكن حدث العكس.
وميسيسيبي ليست حالة معزولة. ففي ورقة جديدة، ضمن سلسلة وثائق «أوستن»، «جلاسر»، و«سمرز»، جاء أن التقارب الإقليمي في نصيب الفرد من الدخل قد توقف؛ وأن التراجع الاقتصادي النسبي للمناطق المتأخرة، قد صاحبته مشكلات اجتماعية متنامية. كلمة في آذانكم: أحد الاستخلاصات التي يمكن الخروج بها من هذه التطورات، هو أن «وليام جوليوس ويلسون» أستاذ علم الاجتماع بجامعة هارفارد- أميركي من أصول أفريقية- كان على حق، عندما ذهب إلى أن العلل الاجتماعية للفقراء غير البيض في الأجزاء الداخلية من المدن، لم يكن لها أصل في بعض العيوب الغامضة للثقافة الأميركية- الأفريقية، وإنما كان لها أصل في عوامل اقتصادية تكمن – تحديداً- في اختفاء الوظائف الجيدة للعمال ذوي الياقات الزرقاء. فالأمر المؤكد هو، أنه عندما يواجه الريفيون من البيض خسارة مماثلة في الفرص الاقتصادية، فإنهم يعانون من انهيار اجتماعي مماثل.
إذن ما الأمر مع ترامب لاند؟ بالنسبة لي شخصياً، أتفق مع «انريكو موريتي» الأستاذ بجامعة «بيركلي» بشأن معظم ما جاء في كتابه المعنون «الجغرافيا الجديدة للوظائف» الصادر عام 2012، وهو كتاب يجب أن يقرأه أي شخص يحاول فهم حالة أميركا. يرى «موريتي» أن التغيرات الهيكلية في الاقتصاد، قد انحازت للصناعات التي تستخدم عمالًا متعلمين تعليماً عالياً - وأن هذه الصناعات تحقق أفضل أداء في المناطق التي يوجد بها بالفعل الكثير من هؤلاء العمال. ونتيجة لذلك، فإن مثل هذه المناطق تشهد حلقة حميدة من النمو: حيث تزدهر صناعاتها كثيفة المعرفة، وتستقطب عمالاً أكثر تعليماً، مما يعزز بدوره من الفوائد التي يمكن الحصول عليها منهم. في الوقت ذاته، نجد أن المناطق التي بدأت بقوى عاملة متدنية التعليم، قد دخلت في دوامة من الهبوط. في حين أن هذه العوامل البنيوية تمثل، بالتأكيد، الملامح الرئيسية للقصة بمجملها؛ إلا أنني أعتقد أننا يجب أن نعترف أيضاً بدور السياسات المدمرة للذات.
ومع أن ورقة «أوستن» وزملائه، تدلل على صواب السياسة الوطنية القائمة على تقديم يد العون للولايات المتخلفة عن الركب؛ إلا أننا يجب ألا ننسى في الآن ذاته، أنه يوجد لدينا بالفعل برامج تهدف لمساعدة هذه الولايات، ولكن المشكلة كانت أنها لا تقبل بمثل هذه البرامج، على الرغم من حقيقة أنها من بين الولايات الأكثر فقراً في الولايات المتحدة. وهناك أيضاً المثال الخاص بولايتي كنساس وأوكلاهوما - كلتاهما كانتا ضمن الولايات الثرية في سبعينيات القرن الماضي، ولكنهما تراجعتا الآن إلى حد كبير – اللتين دخلتا في سلسلة من التخفيضات الضريبية الجذرية، التي أدت في نهاية المطاف إلى إفساد نظم التعليم الخاصة بهما. لقد وضعتهما قوى خارجية في حفرة، لكنهم دأبوا مع ذلك على حفرها بشكل أعمق، بدلاً من محاولة الخروج منها.
بول كروجمان
كاتب أميركي حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»