احتفينا في الرابع من الشهر الجاري بالذكرى السنوية لاغتيال الدكتور المبجل مارتين لوثر كينج. وعلى رغم من مرور 50 عاماً منذ ذلك اليوم المشؤوم، لكن مثل كثير من أبناء جيلي، لن أنسى حالة الرعب التي شعرنا بها، والإحساس العميق بالضياع الذي عشناه، والشعور بأننا كنا نقف على شفا جرف هاو. وقد عززت الأحداث التي توالت في الأيام والأشهر التي لحقت مقتله، أعمق مخاوفنا، فقد تفجرت أعمال الشغب في أكثر من 100 مدينة أميركية، مع استيقاظ الأميركيين من أصول أفريقية على صدمة وغضب جراء قتل زعيمهم المحبوب. وبعد أشهر قليلة، اغتيل السيناتور «روبرت إف كينيدي»، ولم تمر سوى بضعة أشهر بعد ذلك، مع اجتماع «الديمقراطيين» في شيكاغو لعقد مؤتمرهم الوطني للترشح في انتخابات الرئاسة، حتى واجهت شرطة شيكاغو ووحدات الحرس الوطني بعنف احتجاج ضخم ضد حرب فيتنام أمام مقر المؤتمر. وعندما أعرب مندوبو الحزب داخل قاعة المؤتمر عن تضامنهم مع المتظاهرين، قوبلوا أيضاً بالعنف. وقد كان ذلك الوقت شديد الاضطراب، مع تصدر قضايا الحرب غير العادلة، والعنصرية، والمآسي الاقتصادية العميقة التي واجهت ملايين الأميركيين من السود والبيض، المحاصرين في الفقر، للمشهد. وقد نافح دكتور كينج في خضم النقاش الوطني عن جلّ تلك القضايا، ولذلك السبب على وجه الخصوص، كرهه ومقته أولئك الذين تعرضت مصالحهم للتهديد من جانبه. وقد كان هناك البعض، خصوصاً الليبراليون في الشمال، ممن قبلوا تحدي كينج لقوانين «جيم كرو»، في الجنوب التي فرضت على مدار أجيال نظام الفصل العنصري. لكن عندما تحول انتباهه إلى نظام تمييز لا يقل بشاعة فُرض على حياة السود في مدن الشمال الأميركي، اعترض أولئك الليبراليون أنفسهم. وعندما عارض صراحة الحرب في فيتنام، ونظم حملة «شعوب فقيرة»، وبدأ حشد تأييد للعمال في الإضرابات من أجل الأجور، قرروا الانقلاب ضده. وأحب الليبراليون خطابه «لديّ حلم»؛ لأنه لم يكن يهددهم، لكن عندما اتسع حلمه ليتحدى الفقر والحرب والظلم الاجتماعي، وبدأ يُترجمه إلى عمل، رفضوه وأهانوه. ولعل من المزعج بشكل كبير أن لوثر كينج الذي نتذكره في الوقت الراهن ليس لوثر كينج الذي عاش وعمل بيننا، وإنما نسخة مفرغة وظِلّ مقلوب للرجل الذي لا يتحدى أحداً. ومثلما كتب صديقي ومعلمي «جيسي جاكسون» مؤخراً: «إننا ندين للدكتور كينج ولأطفالنا وأحفادنا، بأن نتذكر الرجل بشكل كامل: الذي كان مدافعاً قوياً عن تعليم الفقراء ومناهضاً للحرب ومؤيداً للهجرة، والذي قضى معظم وقته في المسيرات والسجن من أجل الحرية والعدالة أكثر مما قضى من وقت يحلم بتحقيق ذلك». ومن هذا المنطلق، أود أن أحيي ذكرى ذلك الرجل الأسطوري الاستثنائي بترك كلماته الاستشرافية تعبر عن موروثه. فعن إنسانيتنا المشتركة وتبعيتنا المتبادلة، يقول «كينج»: «لا يحيا الفرد حتى يتمكن من السمو فوق الحدود الضيقة لاهتماماته الفردية كافة ويقبل باهتمامات أشمل للإنسانية جمعاء». ويؤكد أن: «الناس كافة يعتمد بعضهم على بعض، وكل أمة وريثة كنز عملاق من الأفكار والعمالة ساهم فيه الأحياء والأموات من كل الأمم.. وسواء أدركنا ذلك أم لم ندركه، فنحن مدينون إلى الأبد لرجال ونساء معلومين كانوا أو مجهولين». وأما بشأن التحديات الأخلاقية التي نواجهها، فقال «كينج»: «إن المقياس الحقيقي للرجل ليس موقفه في أوقات الرخاء واليُسر، وإنما مواقفه في أوقات التحدي والعسر، والجار الحقيقي هو من يجازف بوضعه ومكانته وربما حياته من أجل رفاهية الآخرين». وأضاف: «لدي جرأة تصور أن الناس في كل مكان يمكنهم تناول ثلاث وجبات يومياً لأجسادهم وتعليم وتثقيف عقولهم وكرامتهم ومساواتهم والحرية من أجل أرواحهم». وفي محاربة العنصرية، يقول: «على أميركا البيضاء ألا ترى أي جماعة عرقية أخرى مستعبدة على الأراضي الأميركية، فأميركا حررت العبيد في 1863، لكنها لم تمنح العبيد السابقين أرضاً أو شيئاً ملموساً ليبدؤوا حياتهم، وفي الوقت ذاته، منحت أميركا ملايين الأفدنة من الأراضي في الغرب والغرب الأوسط للفلاحين الأوروبيين، وهو ما يعني أنها كانت مستعدة لمنح الفلاحين البيض من أوروبا قاعدة اقتصادية، إلا أنها رفضت منحها لفلاحيها السود من أفريقيا الذين جاؤوا إليها مجبرين مغللين بالأصفاد، وناضلوا من أجل حريتهم على مدار 244 عاماً». ويقول: «إن الحرية لا تُمنح طواعية من قبل القامع، لكنها تُطلب طلباً من المقموعين». وفي معارضته للحرب، يشير إلى أن «شباب أميركا يقاتلون ويموتون اليوم في الأدغال الآسيوية في حرب أهدافها غامضة، وتستاء منها الأمة بأسرها، وقيل لهم إنهم يدافعون عن الديمقراطية، لكن النظام في جنوب فيتنام هو أضحوكة الديمقراطية، بل إن الجندي الأميركي الأسود نفسه لم يجرب الديمقراطية قط». لقد كان ذلك مارتين لوثر كينج الذي ينبغي أن نتذكره هذا الأسبوع وكل أسبوع!