قامت جامعة القاهرة بإلغاء الزوايا الدينية في الصالات المفتوحة للجامعة، وتحت بئر السلم، وفي كل مكان فيه فضاء بين المدرجات. بعدها نشر الحصير ووضع الشباشب عند حافتها، فتحولت الجامعة إلى جامع بل إلى جوامع متلاصقة يُطلق فيها الآذان؛ فيخرج الطلاب من المدرجات لأداء الواجب الشرعي. وبعد الصلاة والاستذكار تكون المحاضرة التالية قد بدأت، فيدخل المصلون تباعاً ويفتحون الباب والأستاذ يحاضر، فيقطع محاضرته حتى يدخل المتأخرون. ويجدون أمكنة للجلوس بعيداً عن الطالبات، خاصة أن باب المدرج بجوار منصة الأستاذ وليس في آخر المدرج. وماذا لو طالب الإخوة الأقباط يوم الأحد بمكان أيضاً للصلاة فتتحول الجامعة إلى ساحة للعبادة وليس مكاناً لطلب العلم؟ وينفصل الأقباط عن المسلمين، وقد يحتد بعضهم على الآخر فتصبح الجامعة مكاناً للصراع الديني بدلا من مشاركة كل الطلبة في العلم الذي يجمع ولا يفرق. إن الدين موضوع للدراسة في الجامعة وليس موضوعاً للعبادة. في كلية الحقوق؛ الشريعة الإسلامية، وفي كلية الآداب؛ فلسفة الدين، وفي دار العلوم؛ تاريخ الأديان، وفي الكليات الأزهرية؛ أصول الدين وحوار الأديان. وكل الفلاسفة قد تكلموا حول الدين، وبحثوا في نشأته وضرورته ومصدره وتعدده وعلاقته بالسياسة والاجتماع والأخلاق.. فالجامعة دار علم، تبحث عن الحقيقة قبل أن تعتقدها أو تمارسها. وبعض الفلاسفة لم يجدونها وبقوا على شكهم، وبعضهم وجدها ودافع عنها ضد الشكاك. ونشأ صراع في تاريخ الفلسفة الغربية بين العقائدية ?ومذهب ?الشك. ?وهناك ?موقف ?ثالث ?أنه ?أمر ?باطني ?قلبي ?وليس ?أمراً ?عقلياً. ?لا ?دليل ?على ?وجوده ?أو ?نفيه، ?صوابه ?أو ?خطئه. ?فالدين ?ليس ?ضد ?العلم. ?بل ?هو ?موضوع ?للعلم. ?الدين ?في ?الجامعة ?هو ?موضوع ?للتفكير ?وليس ?موضوعاً ?للعبادة. يمكن بدلا من الزوايا الدينية وضع مناضد لعرض الكتب الدينية وغيرها دون انتقاء تيار معين حتى يقرأ الطلاب كل التيارات، وتكون امتداداً للمكتبة من الداخل إلى الخارج؛ وتعرض الكتب الإصلاحية مثل «رسالة التوحيد» لمحمد عبده، والتنويرية مثل «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، والكتب العلمية مثل كتب سلامة موسى، وإسماعيل مظهر، وزكي نجيب محمود، وكتب الحوار الحضاري بين هذه التيارات مثل حوار محمد عبده وفرح أنطون في «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية».. وغيرها، وذلك كله ضد حرق الكتب واغتيال المفكرين. ولا حرج من عرض كتب الأزجال وشعراء العامية، مثل صلاح جاهين والأبنودي ونجم، وسماع الأغاني الثورية للشيخ إمام منذ الستينيات. ويمكن عرض الكتب العلمية أيضاً لمعرفة حكمة الله في الكون، كما كان يفعل مصطفى محمود في برنامج «العلم والإيمان». ولا خوف من عرض الكتب السياسية والاجتماعية. فالسياسة حق شرعي لجميع أفراد الأمة؛ وأول الحقوق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحسنى «رحم الله من أرشدني إلى عيوبي» كما قال عمر بن الخطاب من فوق المنبر. وكذلك كتب الاقتصاد، وتاريخ الثورات العربية منذ ثورة 1919 حتى ثورة 2011، وثورة الجزائر، وثورة جنوب أفريقيا ومساهمة المسلمين فيها. وبهذه الطريقة يملأ الشباب فراغ قلوبهم بدلاً من الجلوس في الزوايا، هروباً من الواقع الاجتماعي بحلول فردية كما يفعل الصوفية، وبدلاً من الوقوف في طرقات الجامعة ودهاليزها بين المدرجات، يمارسون التحرش والنميمة. ولا ضير في أن يشترك الأساتذة من كافة الاتجاهات في هذا النشاط العلمي الفكري والاجتماعي والسياسي الجديد. فالبحث العلمي ليس فقط داخل المدرجات، بل مستمر أيضاً خارجها. هنا يتحول العلم إلى ثقافة، ومن الحصول على الدرجة العلمية إلى كيفية البحث عن الحقيقة. ويكون الوطن هو الهدف بدلا من هجرته أو الانزواء فيه. فإن لم تكف زوايا العبادة بالجامعة فهناك الجامع في مدخل المدينة الجامعية لممارسة الشعائر. العبادة لمن يعرف الحقيقة، مكانها في المساجد للوعظ بها، ومن يبحث عنها مكانه الجامعات كي يتعرف على مناهج البحث العلمي. طريقان لا يلتقيان بين من يقفز إلى النتائج ومن مازال يبحث عن المقدمات. *أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة