بالنسبة لكثير من الشباب، قد تبدو فكرة «الأسواق المالية الفعالة»، وهي الفكرة القائلة بأن السعر الفعلي للأسهم والسندات (حسب رأي الاقتصادي «يوجين فاما»، الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2013)، «يكون في أي لحظة زمنية بمثابة تقدير جيد لقيمته الجوهرية».. وكأنها نكتة. فالأزمة المالية عام 2008، وانفجار فقاعة الإسكان، وتقلبات أسواق الذهب، والبيتكوين، والأسهم الصينية.. كلها فندت فكرة أن الأسعار تسترشد دوماً بـ«اليد الثابتة للعقلانية». لكن هل تصدقون أنه قد جاء وقت احتلت فيه نظرية الأسواق الفعالة مكانة مرموقة في النظرة العالمية للاقتصاديين والمتخصصين في الشؤون المالية على حد سواء. لقد تم توثيق هذه النظرة، في كتاب زميلي «جاستن فوكس» الرائع المعنون «أسطورة السوق العقلانية: تاريخ المخاطرة والمكافأة والوهم في وول ستريت». الفكرة في جوهرها تستند إلى منطق بسيط نوعاً ما: إذا كان الناس يشترون الأصول دائماً بأكثر من قيمتها الأساسية، فإنهم سيخسرون أموالهم حتماً. وإذا ما خسروا المال، فسوف يضطرون للخروج من السوق الذي سيبقى فيه فقط المستثمرون المستعدون لدفع السعر المناسب والذين يشار إليهم غالباً بـ«المضاربين العقلانيين». هذا المنطق بسيط وجذاب، لكنه ليس صحيحاً بالضرورة في العالم الواقعي، ذلك لأن الأشخاص الذين يتداولون بناءً على «الأسس الجوهرية» للسوق، لا يمتلكون موارد لا نهائية، والأسواق (كما قال المفكر الاقتصادي جون ماينارد كينز ساخراً ذات مرة) «يمكن أن تبقى غير عقلانية لفترة أطول من الفترة التي يبقى فيه المتداولون معسرين». عقب انهيار سوق الأسهم عام 1987، تراجع الاقتصاديون بقوة عن فكرة الأسواق الفعالة. وتحولت أقوال كينز رسمياً إلى نظرية اقتصادية من قبل علماء اقتصاد من أمثال «جيه برادفورد دي لونج»، و«وأندريه شليفر»، و«لورانس سامرز»، و«روبرت فالدمان» في عام 1989. كانت الفكرة هي، أن ما يسمى «مضاربو الضجيج» يمكن أن يعملوا بشكل متناسق لدفع الأسعار للتغير بشكل غير متسق مع الأسس الجوهرية للسوق. وعندما يحدث هذا فإن المتداولين العقلانيين، بمواردهم المحدودة، لن يخاطروا بالوقوف أمامهم، مما يمكن «مضاربي الضجيج» من الاستمرار في السوق وتحقيق مكاسب. إنها فكرة مقنعة، لكن من الصعب للغاية اختبارها عملياً، لأن مراقبة المضاربين العقلانيين أثناء العمل أمر ليس ميسوراً بحال. في العادة، لا أحد يعرف ماهية الصفقات التي قام بها المتداولون «العقلانيون»، أو تلك التي قام بها المتداولون «غير العقلانيين». ومع ذلك، فإن ورقة حديثة، تقوم بشيء قريب من ذلك. ففي «مؤسسة التحكيم وقابلية التنبؤ بعوائد الصناديق المتداولة في البورصة»، يستخدم الاقتصاديون «ديفيد براون» و«شون ديفيز» و«ماثيو رينجنبرج» الطريقة التي تتم بها هيكلة الصناديق المتداولة في البورصة (ETF) للتفرقة بين التداولات العقلانية وتلك غير العقلانية. وعادة ما يكون للصناديق المتداولة في البورصة، مجموعة معينة من المتداولين يُطلق عليهم تسمية «المشاركين المرخصين» (APS) لديهم القدرة على تنفيذ عملية تحكيم بين الصندوق وأصوله الأساسية، سواء الأسهم أو السندات أو السلع. فعندما تتغير أسعار تلك الأسهم والسندات والسلع، يستجيب هؤلاء «المشاركون المرخصون» من خلال شراء وبيع الأصول الأساسية، أو من خلال خلق أو استرداد أسهم الصناديق المتداولة في البورصة، حتى تعود القيمتان إلى المستوى الصائب، أي أن يعودوا هم، وهذا هو المقصود، إلى وضعية المضاربين العقلانيين. وعموماً فإنه يمكن القول بأن «المشاركين المرخصين» التابعين للصناديق المتداولة في البورصة، يقومون بعمل جيد في الحفاظ على قيمة الصناديق بحيث تكون قريبة من قيمة الأصول التي تمتلكها. لكن وظيفة تلك الصناديق، وموجوداتها، والمشاركين المرخصين العاملين فيها، لم تعد الآن منحصرة في التأكد من أن أسعار الأصول نفسها تعكس «الأسس الجوهرية» فحسب، وإنما أيضاً التأكد من أن وجودها في حد ذاته يعني كذلك وجود بعض المضاربين العقلانيين في السوق، على الأقل. وحقيقة أن أسعار الأصول المتداولة في «الصناديق المتداولة في البورصة»، لها انعكاسات يمكن التنبؤ بها، تشير إلى أن المضاربين العقلانيين لا يبذلون جهداً كبيراً من أجل تصحيح الأسعار الخارجة عن السياق. بعبارة أخرى، يمكن القول إنه حتى الأسواق التي لديها بعض المشاركين العقلانيين، يمكن أن تتصرف بطريقة غير عقلانية، وأنه يمكن للمضاربة أن تحرك الأسعار لأسباب غير عقلانية، وأن المتداولين العقلانيين، في كثير من الأحيان، إما لا يستطيعون تصحيح تلك الأسعار، أو أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء المحاولة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن تأثير ذلك كان أقل وضوحاً في الفترة بين عامي 2012 و2016 مقارنة بالفترة بين 2007 و2011، مما يشير إلى احتمال أن تكون عدم كفاءة الأسواق ذاتها مجرد ظاهرة مؤقتة. فنظرية الأسواق الفعالة وإن كانت لا تناسب الحقائق على الدوام، فإنها لا تموت أبداً. نوح سميث أستاذ العلوم المالية المساعد بجامعة ستوني بروك ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»