تحاول قوى عديدة في الداخل والخارج، التشكيك في دور الجيوش العربية، مستندة في ذلك إلى أمرين: الأول أن الديمقراطية تفرض لزاماً إبعاد قادة الجيوش عن العمل السياسي، وتحديداً عن الحكم، والأمر الثاني: أن تلك الجيوش فقدت شرعيّة وجودها، حين اختارت الوقوف إلى جانب بقاء الدولة الوطنية موحدة ومستقرة، ما يعنى وقوفها إلى جانب الأنظمة، وفي الأمرين نوع من التشويه للحقائق، حيث يستمد زعماء العالم ـ خاصة الغربي الديمقراطي ـ قراراتهم من قوة الجيوش، وما يمكن أن تحققه من حماية في الداخل، ومن وجود في الخارج، حتى أنها أصبحت اليوم البديل عن الدبلوماسية والثقافة، وعن كل مظاهر القوة الناعمة، وخير مثال عن ذلك، انتشار الجيوش الفرنسية والبريطانية والأميركية في مواقع كثيرة خارج حدودها وفي مناطق شديدة التوتر، وتنطبق الحال على القوى العالمية الأخرى مثل: روسيا والصين وغيرهما. هذا الكلام مردود عليه، ويزيف الوعي، وهو آتٍ من سعي حثيث للقضاء على ما تبقَّى من رُكْنٍ حامٍ للدولة الوطنية، فالتجارب الديمقراطية التي قامت في دولنا ـ على ما فيها من نقائص ـ كانت من نتاج الجيوش وبإشرافها، وحين تسببت تلك التجارب في إشعال الفتن تصدت لها الجيوش، بل إن كل المشاريع الكبرى، بما في ذلك الخاصة بالفنون والثقافة، كانت من نتاج التفكير السوي لقادة الجيوش العربية، أما كونها اختارت حماية الأنظمة من خلال دعم الشرعية، وبالتي حماية الأوطان والدول، فإن ذلك كان خياراً من قبلها في العالم الغربي، وخياره اليوم، بل وخياره المستقبلي، هنا نتساءل: متى تخلَّت الدول الكبرى عن استعمال القوة، وتحديداً توظيف الجيوش في الداخل والخارج لتحقيق سياساتها، بما في ذلك إبادة شعوب بأكملها؟! الواقع العملي في معظم الدول العربية، يكشف عن حضور للجيوش في كل الميادين بمطلب شعبي، ليس فقط لأنها مُتسمة بالانضباط والالتزام والشرف العسكري، وأنها تملك حق استعمال القوة ـ قانوناً ـ عند الضرورة، ولكن لأنها تتميز بدرجة عالية من الوطنية نراها في التضحيات، وتحمل صدقاً ووفاءً بالعهود، إضافة إلى إتقان العمل، وللتأكد من هذا يمكن زيارة كل المؤسسات التابعة لها، أي تلك التي تتعامل مع الجمهور مباشرة لنلاحظ الفرق، وبرغم ما تواجهه من مصاعب تواصل جهادها اليومي ـ سلماً وحرباً ـ وقد تعدت دورها التقليدي من حماية السيادة والأرض إلى حماية الجبهة الداخلية وإلى القيام بدور سياسي. علينا أن نعي مسألة بالغة الأهمية، وهي: أن الجيوش العربية، لم تعد كما عهدناها منذ الاستقلال تمارس دورها التقليدي، المنصوص عليه دستورياً فحسب، وإنما اليوم تنوب عن معظم مؤسسات الدولة، صحيح أن مهامها جديدة وصعبة بعد تكالب أممي عليها من قوى إقليمية ودولية، ولكنها في تفاعلها مع الشعوب وإدراك هذه الأخيرة لدورها، تقوم بأدوارها الجديدة، وضبابية الرؤى لدى كثيرين ـ بما فيهم عناصر النخبة وقادة الأحزاب السياسية ـ سببها وجودنا في مرحلة انتقالية بعد تغيرات كبيرة وجارحة قامت في كثير من دولنا، تمّ فيها الخلط بين ما هو وطني، ومن الضروري حمايته بالقوة حين يستدعي الأمر ذلك، وبين ما هو سياسي، نتج عنه ممارسات سيئة تمّ رفضها في المطلق، وتغييرها الكلي يتطلب تضحيات من الشعوب، هي غير قادرة عليها، ولكي نتجاوز المرحلة الانتقالية علينا إدراك أننا نحن المدنيين والجيوش فريقاً واحداً، تماماً مثلما كنا في حروب التحرير ضد المستعمر، ذلك لأن استعمار اليوم أشد وأكبر وأخطر.. إنه نابع من ذواتنا قبولاً بالأعداء، أو تحالفاً معهم، أو استسلاماً لهم، وتلك هي البَليّة التي تبكي.