في الاستشراق تبرز الصيغة التالية بين الغرب والشرق بمثابتها ضابطاً للعلاقة بين العقل والقلب، فكأنما الأول (الغرب) معادل للعقل، والثاني (الشرق) معادل للقلب. ولعلّه يعني ما يجسده هنا القلب بما قد يعنيه من اللاعقلانية، والغرب الذي يجسده العقل الموازي للقلب والمختلف عنه معنى ومنهجاً. فهي ثنائية العقل واللاعقل، الثنائية التي تحكم آلية الحياة وقواعدها ونتائجها. تلك هي الفكرة المحددة بحدود الاستشراق الغربي، وقد ألّف عنها إدوارد سعيد كتابه «الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء». وقد تناول ذلك الكتاب مثقفون ومفكرون تناولاً نقدياً، انطلاقاً من فكرته الرئيسية، والتي يدافع عنها المؤلف على نحو يشي بالعلاقة التي يقوم عليها ذلك الاستشراق «الغربي»، أي علاقة الاستشراق بثنائية «الشرق والغرب» كعلاقة حدية بين القلب والعقل، والتي يأخذ بها الاستشراق الغربي، مع التشديد على أن «القلب» ها هنا مساو -حسب المؤلف - لـ«الشرق»، فيما يساوي «العقل» هنا «الغرب»، أي حامل «العقل» ومنتجه. وهنا تتبلور ثنائية «العقل» و«القلب» من حيث هي -حسب إدوارد سعيد- ضبط لماهية كل منهما. إن نظرة أو تحليلاً أولياً لذلك المركب من المصطلحات يشي بدلالاته التي، والحال كذلك، لا تخرج عن نظرة أخلاقية دونية، يبرز فيها «الشرق» من حيث هو هذا «الشرق» الجغرافي الذي يرتبط بنظرة دونية في ذاته، كما بالنسبة إلى الآخر، وبعدئذ تأخذ التحديدات التاريخية والجغرافية والعقلية والنفسية والفردية والجماعية، لذلك «الشرق» سماتها الخاصة والفطرية. ونخلص من تلك المقارنة وفي ضوء الموقف بعمومه إلى ضبط العالم كله، في سابقه وراهنه، كما في احتمالاته الأخرى القادمة، دون تغيير. وهنا تبدو الملاحظة التالية واردة للإشارة إلى أن تغييراً ما قد يحدث، لكن في ما لا يمس البنية الحاسمة في واحديتها، إن لم نقل أبديتها. وبالتعبير المنهجي، يعني ذلك أن تغييراً ما لا يحدث في بنية القلب المحدد الأول بالاعتبار الوجودي والإبستيمولوجي، أي بالاعتبار الذي يؤسس منهجياً بنيته غير القابلة للتغيير. وعلى الطرف المقابل، يقف القطب الآخر بكل جبروته وأبديته، وهو «العقل»، الذي يؤسس لـ«الغرب» مقابل «الشرق»، حيث يوجد العقل منفتحاً على التحديات الكبرى والصغرى، خصوصاً على عالم الآخر، وهو بذلك يسطر تاريخ العالم في سيره الإبداعي المفتوح، ويضع البشرية أمام خطوات لا تكتمل بخطوات أخرى من نسقها، بل في التغيير الجمعي الذي يفضي إلى مراحل التاريخ الكبرى وما تنتجه من تحولات نوعية تفتح للتاريخ البشري أبواباً بعد أبواب وانتصارات بعد انتصارات. لقد أخطأ المفكر إدوارد سعيد، حين رنا إلى التغييرات الكبرى والصغرى «في مراحل تاريخية»، ونظر بدهشة عجلى إلى «هنا» و«هناك». لقد أخذ بالتغييرات العظمى التي عاشها الغرب خصوصاً في القرن التاسع عشر وصد عينيه عن مشاهد وطنه، والذي عاش مراحل مريرة لاسيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد كان هذا المصير الذي أفضىَ إلى «العالم الأول» (الغربي) بكل تقدمه وتعاظم اكتشافاته، مقابل «العالم الثالث» وما عاناه من تراجع وذل وبؤس. لقد جاء ذلك المصطلح، ليقود الفكر العربي إلى ما لم يعد عالماً ثالثاً مفتوح الحدود والاختراقات. إن ذلك التطور أفصح عن أخطر خطواته متمثلة بـ«العالم الثالث» نفسه، وإن الأمر ما زال مستمراً في تلك الحالة الدونية التي أفصحت عن نفسها خلال السنوات المنصرمة، متجسدة في تدمير ما أنجزته البشرية في سوريا. ولما كانت سوريا هي العالم الذي اكتشف كيف يكتشف نفسه ويبنيها، فإن هذه الأيقونة ستظل قادرة على استعادة شبابها، وهنا الدرس الأول للبشرية وحينذاك، سنحيي القديم السائر نحو جديد.