في دولة أفريقيا الوسطى، وبالضبط في قرية نائية ومعزولة تدعى «ندونجا»، تخلو تماماً من أي مدرسة رسمية، ولا توجد حكومة جادّة يمكنها أن تتكفل ببناء مدرسة فيها. ولهذا السبب، اتفق سكانها المنشغلون بمستقبل أطفالهم، على استخدام غصون الأشجار وأوراقها لبناء ما يشبه مدرسة فوق التراب لا تتوفر فيها الكهرباء ولا النوافذ ولا المقاعد ولا يمكنها حماية تلاميذها من الأمطار والحشرات ولكنّها عامرة بالأمل ويحكمها النظام والانضباط، ويملأ مرتاديها الطموح بتحقيق أحلامهم. وأصبح تلاميذها البائسون الذين تجاوز عددهم التسعين، والذين يجلسون على مقاعد منسوجة من جذوع الخيزران «البامبو»، قادرين على تلقين زعماء وقادة العالم الدروس العملية حول أهمية التعليم ودوره المهم في الارتقاء بأسس الحياة البائسة حتى وهم محرومون من أبسط حاجاتهم ومتطلباتهم الأساسية اليومية. وقال لي «برتراند جولبه»، وهو فلاح وأب لأحد التلاميذ اقتضت منه الحاجة أن يتحول بين عشيّة وضحاها إلى معلّم في تلك المدرسة:«من الصعب أن تزاول مهمة التعليم من دون توفر الدفاتر والأقلام، ولكنها الطريقة التي نعمل بها هنا صاغرين». وأضاف «جولبه» وهو يشير لي إلى صفوف التلاميذ: «إنهم يأتون إلى هنا دون أن يتناول أي منهم فطور الصباح. إنهم جائعون، وهذا يزيد المهمة التعليمية تعقيداً». وبالرغم من هذه الظروف، فإن التلاميذ يتلقون العلم. وهنا، في هذا البلد الذي يعد الأكثر فقراً في العالم، أصبح التلاميذ يجيدون اللغة الفرنسية وكانوا يتحادثون بها معي، واكتشفت قدرة بعضهم على حلّ مسائل معقدة في علم الهندسة عندما حاولت اختبار مستوى تحصيلهم المدرسي. وقال لي تلميذ عمره 13 عاماً يدعى «دوريا سيليانكا» أن والده قتل في الحرب الأهلية التي اندلعت في جمهورية أفريقيا الوسطى منذ 14 عاماً وأضاف بلهجة تغلبها الحسرة أنه لا يتناول إلا وجبة طعام واحدة كل يوم، وأنه يحلم بأن يصبح معلماً في المستقبل، ويرى أن التعليم يشكل بطاقة العبور نحو حياة أفضل. وحول قضايا ومشاكل التعليم في الدول الفقيرة، أتذكر ما قالته رئيسة وزراء أستراليا السابقة جوليا جيلارد التي تقود الآن حملة تحمل شعار «الشراكة العالمية للنهوض بالتعليم»، وهي منظمة مدنية دولية تهدف لدعم قطاع التعليم في الدول الفقيرة: «إن من المؤسف أن تنخفض قيمة المساعدات الخاصة بالتعليم بشكل متواصل منذ عام 2010». وكثيراً ما تتشدّق الولايات المتحدة وتتحدث عن رغبتها القوية في المساهمة بترقية وتطوير المنظومات التعليمية العالمية، ولكنّها لم تقدم أي مساهمة حقيقية في هذا الصدد. وكان الرئيس السابق باراك أوباما قد تعهّد عندما كان مرشحاً للرئاسة قبل ولايته الأولى برصد مبلغ 2 مليار دولار لتمويل الصندوق العالمي لدعم التعليم إلا أننا لم نسمع شيئاً بعد ذلك عن هذه الهبة. وأما الرئيس دونالد ترامب، فلقد قالها بصراحة بأنه بصدد تخفيض قيمة المساعدات الخارجية على الرغم من أن الكونجرس اتخذ قراراً بزيادة الدعم للخدمات التعليمية في الدول الفقيرة. ومن المعروف أن الولايات المتحدة استثمرت مبالغ طائلة لتطوير ترسانتها العسكرية من أجل «إعادة تشكيل العالم»، ولكنها لم ترصد أي مبلغ للاستثمار في ترقية المنظومة التعليمية العالمية. وربما تدفعنا مقارنة بسيطة في هذا الصدد للشعور بالأسف والإحباط وهي أن التكلفة الإجمالية لإرسال جندي أميركي واحد للعمل في الخارج لمدة عام كامل تكفي لإنشاء 20 مدرسة على الأقل في الدول الفقيرة. ولعل من العجيب بعد كل هذا أن يحقق القطاع التعليمي في الدول الفقيرة نجاحاً مثيراً للإعجاب. فحتى نهاية عقد الستينيات، كانت الغالبية العظمى من سكان الأرض من الأمّيين، وأما الآن فلقد انخفضت هذه النسبة في أوساط البالغين إلى أقل من 15 بالمئة. إلا أننا نعاني من مشكلة عالمية جديدة في هذا الشأن، حيث تشير إحصائيات إلى أن أكثر من 60 مليون طفل في سن التمدرس لا زالوا خارج المدارس، وعشرات الملايين من التلاميذ الآخرين في الدول الفقيرة يذهبون إلى المدارس دون أن يتعلموا أي شيء. ويعود السبب إلى أن معظم المدارس في الدول الفقيرة تعاني من حالة هيكلية يرثى لها، وغالباً ما تكون ضحية الفساد المالي وسوء الإدارة. ولا يتواجد المعلمون في صفوفهم لأداء مهماتهم التربوية والتعليمية إلا فيما ندر على الرغم من أنهم يتقاضون رواتبهم بسبب عدم وجود نظام مراقبة فعال. كما أن معظم المعلمين أميون أيضاً. وهذا يعني أن تحقيق التطور التعليمي المنشود لا يمكن تحقيقه بصبّ المزيد من الأموال في هذه المؤسسات التربوية والتعليمية طالما بقي النظام التربوي فيها متصدّعاً ومتهالكاً بشكل عام. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»