وقت ظهور هذه السطور للنور يكون المصريون قد انتهوا من الاقتراع الرئاسي وفي انتظار إعلان النتيجة بعد ساعات قليلة. يحتاج المشهد الانتخابي المصري الأخير إلى تحليلات واسعة، غير أن هناك بعض الملاحظات الأولية التي يمكن أن تساعدنا في فهم العرس الديمقراطي المصري الأخير. في البداية نشير إلى أن الاختيار عند صناديق الاقتراع لم يكن بين مرشحين، بل كان في واقع الأمر بين مستقبل مصر كما يريده ويتطلع إليه أبناؤها من جهة، وبين أعداء مصر الكارهين لها من جهة ثانية، وهؤلاء كثر سواء كانوا إقليمياً أودولياً، ومن أسف شديد تبقى قطر الدولة العربية الوحيدة التي حملت ولا تزال الأحقاد التاريخية للمحروسة، والحال يغني عن السؤال وعلى المتشكك في صحة ما نقول به العودة إلى التغطيات الكاذبة لقنواتها الإعلامية وصحفها والمواقع التابعة لها وجميعها تحمل شراً مجانياً لمصر وللمصريين. روج المغرضون ومن أسف أشد أن بينهم مصريين يمثلون الطابور الخامس في الداخل لفكرة المقاطعة رفضاً للرئيس السيسي بنوع خاص، وبغطاء أنه لا فائدة من الذهاب إلى لجان الاقتراع طالما أن الرجل سيفوز في كل الأحوال. غير أن المصري الذي قال عنه الكاتب والمسرحي الكبير الراحل توفيق الحكيم إن تحت جلده رصيد سبعة آلاف عام من الحكمة، لم تنطل عليه هذه الفرية، وكان حضوره علامة على وعي سياسي عال المستوى شهد له القاصي والداني معاً. لم يكن تصويت المصريين للسيسي القائد والإنسان والمنقذ للمصريين من ظلام الأصولية القاتل، الذي أطبق عليهم لمدة عام فقط، بل كان اختيارهم لمصر الحياة والنماء لا الموت والفناء. نعم استطاع المصريون ومن جديد أن يمتلكوا جرأة الأمل في الغد مهما كانت مشكلات وأزمات الحاضر، فقد شملهم يقين بأن الأوطان تُبنى بالدم والعرق والدموع، لكنها في نهاية المطاف تصل إلى بر الأمان وبعيداً عن مرافئ الخطر والخوف. صوّت المصريون لدولتهم التي ترفض السقوط وبدون أدنى شوفينية مصرية يعلم الجميع أن مصر أحد أهم أعمدة الخيمة العربية القلائل جداً المتبقية ومعنى سقوطها لاسمح الله كان يشي بأن نهاية العروبة على الأبواب، وهو ما لم ولن يرتضيه المصريون في الحال أو الاستقبال. مضى المصريون إلى اقتراع برسم أمور عدة ومن بينها وربما أهمها إصرار لا يلين على مواجهة معركة مع كارهي الحياة ونواب الموت من الإرهابيين، ولم يغب عن بال بسطاء المنظر حكماء المخبر من جماهير الشعب المصري العوام قبل النخبة إدراك أن هؤلاء الإرهابيين ليسوا إلا أدوات لقوى دولية كبرى لا تريد لمصر الخير بحال من الأحوال، ولا تود للمصريين أن يبلغوا عتبات النهضة لا أن يدلفوا إلى داخلها. ربما أبلغ مشهد رأيناه في هذا الإطار كان مشهد أهالي سيناء، حيث تدور الآن رحى أكبر معركة ضد وكلاء إبليس ورسل الشر على أرض الفيروز، فقد خرجوا عن بكرة أبيهم للاقتراع، وكأن الصوت الانتخابي بالنسبة إليهم هو رصاصة الحق في قلب الباطل الذي يريد أن يفرد أجنحته السوداء على واحدة من أطهر بقاع الأرض حيث كلم موسى ربه في الوادي المقدس. يستلفت النظر في المشهد الانتخابي المصري الأخير تضافر جهود المصريين وتعاضدهم من أجل المرور ببلدهم من أزمنة الضيق والمعاناة إلى أوقات الوفرة والراحة بأنواعها الأدبية والمادية، ما أظهر النسيج الاجتماعي المصري في أفضل حالاته منذ أكثر من عقد. على أبواب اللجان كنت لترى المسيحيين والمسلمين يداً بيد في مشهد من مشاهد الوحدة الوطنية التي تمثل عصب الحياة السياسية والإنسانية، والتي حاول الإرهاب تهديدها بعد أربعة عشر قرن من التعايش الواحد واخفقوا. وبالقدر نفسه كان للمرء أن يعاين الشباب والشيوخ والفلاحين والعمال والفنانيين والاعلاميين، وكافة طبقات المجتمع. ويمكن القول إن القوة الحقيقية التي تستحق التكريم من بين صفوف الشعب المصري تمثلت في المرأة المصرية، تلك الأم التي فقدت أبناءها على جبهة الحرب ضد الإرهاب، والداعمة والمساندة لمصر وقواتها، وقد قبلت عقلًا وعدلاً هذه التضحية الكبيرة من أجل صالح أجيال الغد. أجمل وأعظم بل أنفع وأرفع ما في انتخابات مصر الرئاسية الأيام القليلة المنصرمة هو أنها أحيت حراكاً سياسياً وأيقظت وعياً جماهيرياً كاد أن يهجر المصريين لعقود طوال، فمن قلب الألم والمعاناة يخرج التحدي والتصدي، في مواجهة السلبية التي تهدم، وقد استمع المصريون طويلاً جداً إلى شعار يد تبني ويد تحمل السلاح، وها قد جاءت اللحظة الحقيقية حين رأى الجميع المشاركة السياسية في الانتخابات بوصفها اليد التي تبني نهجاً ومساراً ديمقراطياً حقيقياً لا شعاراتياً، وعلى الطرف الآخر هناك اليد التي تحمل السلاح لتطهر أرض سيناء من أدران الإرهاب. نعم مصر تستطيع اختيار الحياة ليُكتب اسمها من جديد في كتاب «الخروج إلى النور» وليس «متن الموتى».. تحيا مصر في الحال والاستقبال. *كاتب مصري