إن الحديث عن الأمن القومي العربي هو حديث عن إحباطات متتالية للتعاون العسكري العربي في مواجهة التحديات التي واجهت الدول العربية، منذ توقيع معاهدة «الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي» في عام 1950. لقد جاء ميلاد هذه المعاهدة في ظل ظروف وصراعات إقليمية ودولية، لذلك لم تفعَّل طوال 68 عاماً هي عمرها حتى الآن، وكان أول إحباط واجهته هو العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، بيد أن أسوأ ما واجهته كان الانقسامات العربية بشأن الغزو العراقي للكويت عام 1990، إذ لم يكن الاعتداء خارجياً، بل جاء من داخل البيت العربي نفسه، ومن أحد أقطاب القوة في الجامعة العربية نفسها، الأمر الذي وضع حداً لمعاهدة الدفاع العربي المشترك. وكما مثّل الغزو العراقي للكويت ضربة موجعة لمبدأ «الدفاع العربي المشترك»، فقد شكل تحدياً آخر لأمن المنظومة الخليجية بعد سنوات من التصدي لمخاطر الجار الإيراني الذي تحول في أواخر السبعينيات، عقب قيام ثورة الخميني، نحو إعلان مبدأ «تصدير الثورة»، مهدداً الأمن الوطني للدول الخليجية فرادى ومجتمعة. وفي الكتاب الذي نعرضه هنا، وعنوانه «مجلس التعاون لدول الخليج العربية والأمن القومي العربي.. الأدوار والتحديات»، يتطرق الدكتور الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة، الباحث السياسي في شؤون منطقة الخليج، نائب رئيس جامعة البحرين والمدير التنفيذي لمركز عيسى الثقافي وعضو مجلس الشورى البحريني ورئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الوطني في المجلس سابقاً.. يتطرق للتداخل العضوي بين أمن دول مجلس التعاون الخليجي والأمن القومي العربي، ويتوقف عند الأدوار التي اطلع بها المجلس في تنمية الأمن القومي العربي، وأهميته المتزايدة في الأمن القومي العربي، لاسيما بعد إطلاق «عاصفة الحزم»، ثم عقب الثورات العربية ومرحلة التخطيط الوقائي. لقد تأسست جامعة الدول العربية عام 1945 على أيدي سبع دول كانت في مقدمتها الشقيقة الخليجية الأكبر، أي المملكة العربية السعودية التي لعبت بعد ذلك أدواراً مهمة في انضمام باقي دول الخليج إلى الجامعة العربية، ومن بعدها إلى معاهدة الدفاع العربي المشترك، رغم المصاعب التي اعترضت طريق بعضها نحو الانضمام، خاصة الكويت التي تقدمت بطلب العضوية عشية الاستقلال عام 1961، فاعترض عليها العراق بزعم أنها جزء منه، إلا أن دعم السعودية ومصر أوقف تعطيل عضوية الكويت فانضمت في العام ذاته إلى الجامعة. ثم انضمت بقية الدول الخليجية الأخرى مباشرة عقب استقلالها عام 1971. ويستعرض المؤلف بعض الأدوار التي أدتها هذه الدول في دعم الأمن القومي العربي، وفي مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، موضحاً كيف فاجأت العالم عشية اندلاع حرب رمضان الشهيرة عام 1973 باستخدام النفط كسلاح في الحرب ضد القوى الداعمة لإسرائيل على حساب الحقوق العربية. ودور هذه الدول أيضاً في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، بفضل الدور المحوري الذي لعبته السعودية في إخماد هذه الحرب وتداعياتها على الأمن القومي العربي، خاصة في وجود محاولات للتشويش من جانب إسرائيل وأطراف عربية ذات مصلحة في استمرار النزاع الداخلي اللبناني. وبعد غزو الكويت عام 1990، كما يلاحظ المؤلف، بدأت دول الخليج العربية تلعب دوراً بارزاً في عمل الجامعة العربية وسياساتها، وإن لم يعد هناك ذكر لدور عربي ضمن مظلة الأمن القومي العربي بعد أن تجاوزت الأحداث معاهدة الدفاع العربي المشترك. بيد أن ما ميز الفترة الزمنية من بداية السبعينيات وحتى الغزو العراقي للكويت عام 1990، ومن بعده حرب تحرير الكويت ثم الحرب على العراق، يقول المؤلف، هو المساعدات الإنسانية والتنموية التي قدمتها دول الخليج بسخاء لسائر الدول العربية. فإجمالي ما قدمته دول الخليج من مساعدات إنمائية وإنسانية في الفترة بين عامي 1970 و2012 يقدر بنحو 158.6 مليار دولار. وكانت الكويت من أوائل دول الخليج العربية في إنشاء صناديق التنمية، إذ مباشرة بعد استقلالها في عام 1961 أنشأت «الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية»، والذي بدأ بميزانية حجمها 200 مليون دينار كويتي، ثم توسع في عام 1974 لتشمل مساعداته كل دول العالم وتضاعفت ميزانيته لتصل 1000 مليون دينار كويتي. كما عملت دولة الإمارات العربية المتحدة على خلق صناديق للتنمية ومؤسسات أهلية للإسهام في تنمية المجتمعات العربية وغيرها، وكان «صندوق أبوظبي للتنمية» الذي تأسس في عام 1971 باكورة الصناديق الإماراتية، إذ قدم أكثر من 30 مليار درهم منذ إنشائه وحتى عام 2013. كما قدمت المملكة العربية السعودية في الفترة بين عامي 1990 و2013 مساعدات تجاوزت 200 مليار ريال سعودي. وعودة إلى ارتباط الأمن الخليجي بالأمن القومي العربي، يعتبر المؤلف أن القضية الفلسطينية والأطماع الإيرانية أهم عاملين أثّرا بشكل مباشر وغير مباشر في أمن الخليج، وأدّيا إلى نتائج وتداعيات منها: الحرب العراقية الإيرانية، والغزو العراقي للكويت، ثم الحرب على العراق.. ثم انعكاسات ذلك حالياً على الأوضاع في العراق وسوريا واليمن، فضلاً عن التدخلات الإيرانية العلنية في الشأن الداخلي البحريني. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، يذكر المؤلف أن الدول الخليجية اتخذت مواقف صلبة حيال الصراع مع إسرائيل، إدراكاً منها لأهمية تلك المواقف في تعزيز الأمن القومي العربي. إلا أن دور الدول الخليجية في هذا الصدد قد تقلص عقب بدء مفاوضات السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية مطلع التسعينيات، واكتفت هذه الدول بتقديم المساعدات المادية وتأكيد المواقف الداعمة للسلطة الفلسطينية، تاركةً المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لتدبير الإدارة الأميركية. وهو ما فتح المجال أمام إيران لرفع شعارات الممانعة والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي ودعم حركة «حماس»، مما خلق هاجساً أمنياً في المنطقة ككل. كما أن تحول الدول الخليجية، عقب حرب تحرير الكويت، نحو مهادنة إيران، معتقدةً أن خطر ثورتها زال وأن خططها لـ«تصدير الثورة» أخفقت، قد ترك مجالاً واسعاً أمام إيران التي أفادها كثيراً خروج العراق من معادلة توازن القوى في المنطقة. ومن استبعاد العراق إلى الاستحواذ عليه، أفادها سقوط نظام صدام حسين في المجيء بمؤيديها إلى سدة الحكم والسلطة في بغداد، فحولت العراق إلى بلد شبه محتل من جانبها. وكما يوضح الكتاب، فقد استمرت إيران في بناء نفوذها أيضاً في لبنان من خلال «حزب الله»، والذي نجحت أيضاً في الدفع به ليكون وكيلها العسكري بساحات القتال في سوريا. وهناك واصلت تعزيز علاقاتها مع نظام بشار الأسد، واستطاعت التدخل في الوضع السوري حتى أصبحت القوة المهيمنة بعد فشل النظام في السيطرة على الوضع الداخلي والعلاقات الخارجية. كما أن وقوفها وراء الحوثيين في اليمن جعل منهم قوة تواجه ليس السلطة الشرعية اليمنية فحسب، بل خطراً يهدد الحدود السعودية الجنوبية أيضاً. وفي هذا الخصوص أيضاً يعتقد المؤلف أن الدول الخليجية اتخذت إجراءات وردود أفعال مناسبة في تعاملها مع الأزمات اليمنية في السبعينيات وقبلها، لكنها لم تستكمل ذلك الدور الذي كان يتطلب إيجاد منظومة أمنية استراتيجية، تاركةً الساحة للعبث الإيراني من دون أي مواجهة تذكر. ومع ذلك جاءت «عاصفة الحزم» التي أطلقها التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، بقيادة المملكة العربية السعودية، لتفتح أفقاً للعمل العربي المشترك ولتقدم مفاهيم جديدة في سبيل بناء الأمن الإقليمي، وأهم من ذلك كونها مثلت إثباتاً لقدرة دول الخليج على الاعتماد على النفس في الدفاع عن حدودها. وهنا يتوقف المؤلف عند أربعة جوانب لعاصفة الحزم؛ الأول كونها جسدت إدراكاً خليجياً وعربياً بأن الأخطار التي تهدد أمن الخليج العربي والأمن القومي العربي، وصلت إلى مرحلة لم يعد من الممكن السكوت عنها وتتعين مواجهتها بحزم وصرامة. والثاني كونها عبّرت عن وجود الإرادة السياسية الحازمة لدى الدول الخليجية للدفاع عن حدودها وأمن شعوبها بالانتقال إلى التحرك العملي المباشر. والثالث كونها جسدت توجهاً جديداً لدول مجلس التعاون الخليجي يقوم على الاعتماد على النفس في مواجهة الأخطار التي تهدد أمنها القومي ومصالحها الحيوية. أما الرابع والأخير فهو كونها جسدت إدراكاً استراتيجياً من جانب دول التعاون الخليجي بضرورة توثيق الترابط بين أمن الخليج العربي والأمن القومي العربي. وفي مواجهة ثورات ما عرف بـ«الربيع العربي» منذ عام 2011، يشرح المؤلف كيف بدأت دول الخليج بتبني سياسة الوقاية من الاضطراب والإسهام في حفظ الاستقرار في الدول العربية التي عانت من تأثير الثورات والتحولات الراديكالية التي ألمت بها والحيلولة دون تفاقم الأوضاع فيها، وذلك حفاظاً على الوضع الأمني في المنطقة. وكان تفاعلها القوي مع الوضع في كل من مصر واليمن، سياسياً واقتصادياً وإعلامياً، يعود إلى الأهمية الاستراتيجية لهذين البلدين بالنسبة لأمن الخليج. وهكذا كانت دول الخليج العربية حاضرة في التخفيف من تداعيات «الربيع العربي»، حيث قامت بتقديم الدعم المتمثل في القروض والمنح والمساعدات لتقوية البنى التحتية في الدول المعنية، كما أسهمت في تبني مشاريع تنموية بشكل مباشر في هذه الدول، فضلاً عن إسهامها في الصناديق الدولية. وأخيراً يخلص المؤلف من التجارب والتحديات التي أتى على ذكرها في كتابه، إلى أن ثمة حاجة ملحة وبشكل حاسم، لبناء أمن قومي عربي جديد، أي لصياغة استراتيجية لحماية أمن الخليج العربي خاصة، والأمن القومي العربي عامة.. استراتيجية تقوم في جوهرها على بناء توازن إقليمي جديد للقوى في منطقتنا العربية، لمصلحة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية وسائر الدول العربية، حتى تكون لدى هذه الدول القدرة الفعلية على فرض إرادتها، وعلى مواجهة التهديدات والأخطار وحماية الأمن القومي. محمد ولد المنى الكتاب: مجلس التعاون لدول الخليج العربية والأمن القومي العربي.. الأدوار والتحديات. المؤلف: د. الشيخ خالد بن خليفة آل خليفة. الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية. تاريخ النشر: 2018