تنطلق بعد ثلاثة أيام انتخابات رئاسية في مصر، نتيجتها محسومة في اتجاه تمديد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومعها مطالبة من قبل السلطة السياسية للشعب بمزيد من الصبر، وهي مسألة تبين، بطريقة أو بأخرى، طريقة التفكير التي تراهن عليها لكسب وقت جديد تضمن فيه استقرار الأحوال عند المستوى الذي تمضي فيه الآن، وبما يحول دون أي انفجارات يقول صانعو القرار ومتخذوه إنها ستشكل خطراً داهماً على البلاد، ويستعيرون في هذا المضمار ما يجري في بلدان عربية أخرى مثل سوريا واليمن ولييبا والعراق. في الحقيقة هناك طفرة هائلة في التوقعات أو التطلعات أعقبت ثورة 25 يناير، واتسعت أرجاؤها وتعمقت، وهي تدور في مجملها حول تحقيق العدل الاجتماعي وتحسين أوضاع حقوق الإنسان وتعزيز حرية التفكير والتعبير والتدبير والقضاء على الفساد وترسيخ الديمقراطية بإجراءاتها وقيمها وممارساتها، وهي تنبع في مجملها من المبادئ أو الشعارات العامة للثورة. وإذا كانت قطاعات من الشعب لم تشارك في يناير، فإن مشاركتها في يونيو، وهي مسألة ما كان لها أن تتم لولا انطلاق الثورة الأولى، خلق لديها شعورا بالاقتدار السياسي والإيجابية في المطالبة بالحقوق المادية والمعنوية معا. وإذا كانت بعض أركان السلطة التي نشأت عقب ثورة 30 يونيو قد تدرك عكس ذلك، فإن إدراكها هذا في حاجة إلى إعادة تقييم لمسألة التصرف طيلة الوقت على أساس أن هناك حالة تخل عام عن الفعل الثوري بدعوى أنه قد يفتح أبواب الفوضى أو يضع الدولة على فوهة الخطر، لاسيما في ظل التجربة القاسية لحكم جماعة «الإخوان»، وكذلك المنحنى الوعر الذي انجرفت إليه ثورات عربية أخرى. ففي الحقيقة فإن القاعدة الشعبية العريضة لم تعد راغبة في أي انزلاق إلى العنف ولا يمكنها أن تناصر الإرهاب، لكن في الوقت ذاته ليس بوسعها التنازل عن مطالبها، لأنها مستحقة وضرورية أولا، ومرفوعة منذ زمن طويل ثانياً، وتحظى باتفاق عام، حتى ولو اضطر الناس إلى القبول بالتدرج في تحقيقها متبعين طريق الإصلاح وليس الثورة، التي تفرض تغييراً جذرياً وعميقاً وفي زمن وجيز. وثورة التوقعات تلك لا يمكن الاستجابة لها بعيداً عن وضع وتنفيذ عملية تنمية شاملة، اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، لا تقتصر على جانب وتهمل البقية، وبوسعها أن ترتب الأولويات من حيث مدى الاهتمام وحجم الأموال والجهد الذي من الضروري بذله بغية تحقيقها، لكن من الضروري أن تمضي مصر في كل هذه المجالات أو المسارات على التوازي، وليس على التوالي كما يروج البعض الآن. واستعارة نماذج الدول التي انزلقت إلى الفوضى، بفعل تمسك المستبدين بكراسيهم وعدم استجابتهم لمطالب الشعوب، يشكل جزءاً من النقاش السياسي في مصر، والذي أصبح منصرفاً بقوة إلى تشخيص هذا الوضع، وتفسير تأثيراته على الأوضاع الداخلية، بصيغة تتراوح بين تقديرات حقيقية وأخرى جزافية، والأخيرة إما ناجمة عن مخاوف أو هواجس عميقة حيال تماسك الدولة والمجتمع في ضوء ما حدث في مجتمعات عربية أخرى شهدت انتفاضات وثورات، أو ناتجة عن توظيف السلطة لهذه الحالة في إعلاء «الأمني» على ما عداه، ودفع المجتمع إلى زاوية الرضا بالمتاح. وما زاد الطين بلة في هذا الاتجاه هو ظهور «داعش» واستيلائها على أجزاء من سوريا والعراق وتهديد المحيط الإقليمي كله، بالتزامن مع تعرض مصر لموجة إرهابية جديدة تستهدف مؤسسات الدولة والمجتمع على حد سواء، وتسعى إلى اقتطاع جزء من التراب الوطني المصري في سيناء وإقامة إمارة «داعشية» عليه، ما دفع إلى عملية عسكرية شاملة ضد الإرهاب الدموي في سيناء، لها انعكاساتها على مثل هذا النقاش، وعلى الانتخابات الرئاسية، بطريقة مباشرة وغير مباشرة. لكن هذه الورقة المرتبطة بالأمن وتماسك الدولة لا يمكن الاعتماد عليها بشكل مستمر، في وقت لم تهدأ فيه ثورة التطلعات عن جيل جديد من الشباب يشكلون أغلبية سكان مصر حاليا، وفي غمرة التحديات الأمنية، من الضروري الانطلاق في مسار اقتصادي يعمل على استيعاب عدد كبير من الراغبين في العمل، ما يعني الاهتمام بالمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر خلال السنوات القادمة، وفي مسار سياسي طبيعي يخفف احتقان النخبة السياسية المصرية، بفتح باب أمام المعارضة المدنية السلمية الوطنية كي تطرح رؤيتها، وتقدم بدائلها، مع عودة الصوت الآخر إلى الإعلام، وعلى التوازي تجديد مؤسسات الحكم بما يجعل القرار رشيداً وناتجاً عن نقاش متروٍ ومتعدد.