قبل مئة وسبعين عاماً، كانت أيرلندا في غمرة مجاعة أقرب إلى إبادة جماعية، خسرت خلالها الجزيرة ما يتراوح بين 20 و25 في المئة من سكانها، وأثناء تلك المجاعة التي استمرت خمس سنوات، مات أكثر من مليون أيرلندي من الجوع أو الأمراض المصاحبة للمجاعة. وفي تلك الفترة، هاجر زهاء مليون ونصف المليون شخص إلى الولايات المتحدة، لكن خُمُسهم ماتوا نتيجة الظروف المروّعة التي تعرّضوا لها أثناء عبور المحيط الأطلسي. وقد وصفت تلك الكارثة الإنسانية بالإبادة الجماعية لأنه كان من الممكن تفاديها لولا السياسات الاستعمارية المتعمدة التي انتهجتها بريطانيا العظمى، والتي منعت الكاثوليك الأيرلنديين من الوصول إلى أراضيها، وحرمتهم من الحصول على فرص التعليم والعثور على فرص عمل حقيقية، وحالت دون تقاسم الخيرات التي كانت تُنتج في أيرلندا لصالح المملكة البريطانية. وقد كان سبب المجاعة الآفة التي دمرت محصول البطاطس في الجزيرة. وكانت البطاطس قد أصبحت المصدر الرئيس لغذاء السكان الكاثوليك الأيرلنديين بسبب السياسات البريطانية، بعد مصادرة الأراضي الزراعية الخصبة من قبل الحكومة الاستعمارية، ليستغلها الإقطاعيون البريطانيون في إنتاج الحبوب والماشية من أجل التصدير لإنجلترا. ولم يتبق للأيرلنديين سوى قطع صغيرة من الأراضي الأقل خصوبة والصخرية في كثير من الأحيان، ولم يتمكنوا من زراعة البطاطس فيها، بعد أن أصبحوا يعتمدون عليها كمصدر رئيس للغذاء. وخلال فترة المجاعة، كانت البطاطس هي الغذاء الأساسي لنحو نصف الشعب الأيرلندي. وعندما دمرت الآفة ثلاثة أرباع المحصول، تعرض الشعب لمجاعة. وما فاقم من تلك المأساة هو أن أيرلندا كانت في غضون تلك الفترة مُصدّر كبير للغذاء! وبينما كان مئات الآلاف من الأيرلنديين يموتون بسبب نقص الغذاء والأمراض، كان الإقطاعيون البريطانيون في أيرلندا يصدرون ملايين الأطنان من الغذاء إلى مواطنيهم الإنجليز، لدرجة أن 4000 سفينة محملة بالغذاء غادرت أيرلندا متوجهة إلى بريطانيا أثناء عام واحد من المجاعة. فلماذا ترك البريطانيون الأيرلنديين آنذاك يموتون جوعاً؟ يرجع ذلك بصورة جزئية، إلى أن البريطانيين كانوا منغلقين ومحاصرين داخل سياسات مصادرة الممتلكات القاسية، والتي أوجدوا من خلالها ومكنوا طبقة من «الإقطاعيين» الذين تحولوا إلى طبقة سياسية، وأضحت صادراتهم ذات أهمية لإنجلترا. وكانت العنصرية سبباً آخر، فقد وصف البريطانيون الأيرلنديين بأنهم «مجموعة من البؤساء»، واعتبروا المجاعة عقاباً على «عدم المساواة في أيرلندا» و«قضاء وقدراً» للمساعدة في تقليل عدد السكان الأيرلنديين، ومن ثم تسهيل عمل المؤسسة الاستعمارية البريطانية. ومن المزعج بقدر ذلك التاريخ، حقيقة أنه غير معروف على نطاق واسع في الغرب، وهو أمر غير مبرر. وفي حين لا يعلم الأميركيون سوى القليل بشأن المجاعة، فإنهم لا يعلمون شيئاً حول الدور الذي لعبته السياسات الاستعمارية البريطانية في تلك المأساة. وفي الحقيقة، لم أعلم شيئاً عن ذلك التاريخ ومدى تأثيره في وعي الشعب الأيرلندي حتى تسعينيات القرن الماضي. وقد كانت أولى معرفة لي بذلك، عندما زرت أنا وزوجتي أيرلندا وذهبنا لزيارة كنيسة إنجلترا القديمة في غرب الدولة. وفي داخل ذلك المبنى كانت هناك أقبية مذهلة للأضرحة وتماثيل للإقطاعيين والإقطاعيات الذين حكموا المنطقة. وبينما هممت بالخروج من الكنيسة، سألني أحد الحراس عن رأيي في أكبر تلك التماثيل، قائلاً: «ما رأيك في تمثال تلك السيدة؟»، ثم ذكر الكتابة المنقوشة على مدفنها والتي تصفها بأنها كانت «كريمة وعطوفة»، لكنه أوضح أن ذلك كله «هراء»، فقد كانت تعيش في منزل مرتفع على التلة وتأكل من خيرات الأرض، بينما تتركنا نموت جوعاً، مضيفاً: «يالهم من بريطانيين دمويين!». ومثلما اكتشفت، لم تكن ردة فعله غريبة، وقادنا ذلك إلى القراءة والمعرفة بشأن ما لم نتعلمه في المدارس، ووجدنا كتاب «رثاء الحقل»، الذي يؤرخ بقوة للمجاعة وتبعاتها. وفي القرن الماضي، وبعد ثورة دامية، نال الأيرلنديون في الجنوب استقلالهم عن بريطانيا، بينما ظل الشمال جزءاً من المملكة المتحدة. وواصل القوميون الأيرلنديون المعركة من أجل الوحدة والاستقلال بالجزيرة بأسرها. ووضع «اتفاق الجمعة العظيم»، عام 1998 الذي تم التفاوض عليه بين بريطانيا وجمهورية أيرلندا، إطار عمل للتعايش أرسى فترة من السلام والاستقرار وإزالة الحدود، وهو ما أضحى مهدداً بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست».