بعد رحلة حافلة بالصعاب والتحديات والإنجازات العلمية المهمة في تاريخ الفيزياء، رحل قبل أيام أسطورة الفيزياء النظرية البريطاني ستيفن هوكينغ. وبينما تداولت وسائل الإعلام العالمية سيرته وإنجازاته وعناوين كتبه ودراساته اللافتة، إلى جانب مشاركة الأوساط الثقافية والعلمية الأوروبية في التذكير بعظمة جهوده ودوره الاستثنائي في تقريب مسائل الفيزياء المعقدة إلى عامة الناس. وفي الآن ذاته كان جدل من نوع آخر يدور بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي العرب، من قبيل مناقشة مدى مشروعية الترحم على الراحل، بين من أجاز الترحم عليه ومن أنكر ذلك، لأنه في نظر البعض لم يكن مؤمناً! ويا للغرابة حين يتحول حدث وفاة عالم ومفكر بحجم ومكانة هوكينغ إلى مناسبة لإطلاق الأحكام الدينية المتطرفة. إن هذا المستوى من الانحدار الثقافي في عالمنا العربي هو ما يستحق الرثاء أكثر من رثاء رحيل هوكينغ، الذي أمضى حياته في خدمة العلم، وقاوم مرض العصبون الحركي منذ عام 1963 إلى أن أقعده على كرسي متحرك طوال أغلب سنوات مشوار كفاحه، ورغم ذلك عاش حياة غنية بالعطاء المعرفي الذي يفوق طاقة المؤسسات والأفراد الذين ينعمون بصحة وكمال الحواس. هناك مواقف ومناسبات عديدة تكشف مستوى الهزال الثقافي العام في منطقتنا. فإثر رحيل هذا العبقري الفذ، وبدلاً من التوجه نحو قراءة أعماله ومعرفة سيرته العلمية والاطلاع على خلاصة نظرياته، ثبت أن البعض لم يسمعوا شيئاً عنه، وبمجرد انتشار خبر وفاته قاموا بنسخ أسطر متشابهة من صفحات الإنترنت، مصحوبة ببعض التعليقات السطحية التي تدل على ضعف الوعي بقيمة العلم والمعرفة الإنسانية. فالمعرفة لا تفرق بين جنسية وهوية وديانة روادها الكبار. لا يعلم المنشغلون بجواز الترحم على هوكينغ من عدمه أنه قدم نظرية جديدة حول الثقوب السوداء في عام 1974 وأثبت نظرياً أنها تصدر إشعاعاً، وأن عدد النسخ التي بيعت من كتابه «تاريخ موجز للزمن» بلغت أكثر من 10 ملايين نسخة. فيما حققت رسالة الدكتوراه التي أنجزها عام 1966 أكثر من مليوني قراءة عبر الإنترنت بعد أيام قليلة من إتاحتها للجمهور في العام الماضي، وفقاً لإحصائية مكتبة جامعة كامبريدج. لا شك أن مناسبة رحيل عبقري الفيزياء النظرية ستيفن هوكينغ سوف تتخذ في وطنه بريطانيا منحى آخر يليق بالراحل وباستذكار مناقبه العلمية ونظرياته. إلى جانب استلهام أبرز ما تميزت به شخصيته من صبر وشجاعة وإرادة قوية تتحدى الظروف الصحية الاستثنائية والقاسية. فالوضع الصحي الذي رافقه حتى رحيله كان كفيلاً بأن يصيب أي إنسان باليأس والاستسلام، لكن ستيفن لم يستنجد بالخرافات وقرر أن يتحكم بمصيره وأن يتغلب على المستحيل، ويقدم خدمات علمية جليلة للبشرية في حقل دراسته. ولا شك أن حياته ستظل ملهمة في المستقبل لعقود وقرون وأجيال قادمة. أما كتبه وأبحاثه فكفيلة بتخليده في عقول وأفئدة طلاب العلم. وبالتأكيد سوف تكون لأعماله دورة حياة متجددة في المكتبات المتخصصة وفي حلقات النقاش العلمية المفتوحة على احتمالات لا نهائية لتأمل الكون، بالرؤية الشجاعة التي أسس لها هوكينغ، وفتح بواسطتها آفاقاً جديدة للمشتغلين بعلم الفيزياء. وكان لافتاً مضمون النعي الذي جاء على لسان أبناء ستيفن الثلاثة، الذين ركزوا على جوهر شخصية والدهم الراحل بقولهم: «لقد كان عالماً عظيماً ورجلاً غير عادي سيبقى عمله وتراثه قائماً لسنوات عديدة. لقد ألهمت شجاعته، واستقامته، وذكاؤه، وروح الدعابة التي تحلى بها، الناس في جميع أنحاء العالم. لقد قال في إحدى المرات، لن يكون الكون مهماً إذا لم يكن موطناً للأشخاص الذين تحبهم.. سنفتقده إلى الأبد». وبالنسبة لعشاق الفن السابع كانت حياة هوكينغ محوراً لفيلم شهير بعنوان «نظرية كل شيء»، الذي أنتج سنة 2014. ورغم احتشاد الفيلم بالأحداث الدرامية التي حاولت الإحاطة بمفاصل حياة وسيرة الشخصية، فإن الأعمال الوثائقية المصورة والمناسبات التي ظهر فيها ستيفن شخصياً كانت ولا تزال أكثر تأثيراً في وجدان المشاهد، الذي يعرف ما الذي يتحدث عنه صاحب كتاب «الكون في قشرة جوز». ولعل خلاصة تجربة هذا العالم الكبير تتمثل في قوله: «لا تفقدوا الأمل أبداً واستمروا في العمل، فالعمل يعطي الشخص معنىً وهدفاً، الحياة بدونهما فارغة».