كان موضوع الحداثة والديمقراطية في سياق المقالة الأخيرة قد طرح مسألة ذات أهمية خاصة بالنسبة للعالم العربي، إذ ألمحنا إلى أن ثنائية الحداثة والديمقراطية اتسمت بكونها لصيقة بالغرب، وإذ نقرر ذلك، فإننا نعلم أن الثنائية المذكورة تكتب الآن حالة مأساوية بالنسبة للعالم، العالم العربي. لكن القضية هنا غدت أكثر خطورة وتعقيداً، إذ تحول الغرب (مصدر الحداثة والديمقراطية) إلى أكثر من وجه لكلتا المسألتين؛ إلى موضوع قديم جديد بالنسبة لهذا العالم، وقد عادت فيه صراعات الأديان والأعراق. وإذا أردنا ضبط الجغرافيا العرقية، خصوصاً في العالم العربي، واجهْنا هجمة آخذة في التمادي ضمن هذا العالم تحديداً، وهذا ما انتبه إليه وزير الخارجية الروسي في تصريح له مؤخراً حين أعلن أن الروس سوف يخسرون في العالم العربي إذا تعاظم التيار السنّي وتراجع التأثير الشيعي الآخذ في التعاظم، وذلك ضمن الصراع القائم حالياً. ويزيد ذلك التوجه وضوحاً مع ما أعلنه روحاني من ضرورة «الأسْلمة الشيعية»، ومن ثم فالبحث أو الحديث عن الإسلام وعن المذاهب المنطلقة منه، أصبح ذا بُعد «طائفي» واضح وطاغي، مع وجود نهج يسوِّق لمسار ديني شيعي مؤدلج. سنتعرض لذلك من موقعين اثنين، أحدهما يعود لمسار الإسلام في التاريخ الأوروبي الوسيط، والآخر يتصل بموضوع الحداثة والديمقراطية الذي بدأنا به في المقالة السابقة. أما ما يتصل بالمسار الأوروبي للإسلام، فنسوق ما كتبه «مونتكفو مري وان» في العديد من كتبه ومقالاته، ومنه ما يلي: «لقد أعطى الإسلام أوروبا الغربية ليس فقط نتائج مادية واكتشافات تقنية دفعتها إلى الأمام.. إنه أعطى أوروبا ليس فقط إثارات عقلية في حقل العلوم الطبيعية والفلسفية.. لقد قدّم إليها حافزاً لإنتاج صورة جديدة عن ذاتها، إذ دافعت عن نفسها بالتراث اليوناني الروماني. وهكذا، فنحن الأوروبيين الغربيين، ونحن على عتبة عصر العالم الواحد، نجد أنفسنا أمام واجب الاعتراف الصريح بفضل العرب والإسلام علينا. لذلك فنحن مدينون للعرب وللعالم الإسلامي بالكثير». ذلك ما قدمه باحث مرموق من الباحثين الأوروبيين على صعيد الاعتراف بفضل الإسلام على الغرب، مما لا يسمح بإسقاط الاعتقاد بأن تاريخ العرب والمسلمين كان فاعلاً بعمق في الحضارة الأوروبية الحديثة. لكن هذا الاعتراف يضعنا أمام إشكالية ضبط غياب التأثر العميق على صعيدي الحداثة والديمقراطية. وهنا يبرز العامل المركب الذي كمن وراء الاستزادة من عناصر الانحطاط الذي دخلت فيه التحولات الأوروبية ومن ثم العربية، إنه نشأة الاستعمار الأوروبي في العصر الحديث، والذي لم يقف في وجه التطور العربي فحسب، بل تسبب في تفكيك التطورات المحتملة في العالم غير الغربي كله، مما أنتج الاستعمار والإمبريالية وتأثيراتهما في العالم كله. لقد نشأت حالات وضوابط وأفكار جديدة، كان مآلها غالباً إلى الفشل، وإلى فتح أبواب التدخل الخارجي في شؤون العالم العربي، وعوالم أخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ومن هنا تم تصنيف البلدان التي استمرت في وجودها «بلدانا متخلفة» أو «عالم ثالثية»، قل أن تُترك تعيش موتها، إلا ما حاول النظام الحديث فعله ثمناً لتدخل يمارسه أحد بلدان المنظومة المهيمنة. ويتضح لنا أن الفكر الغربي الليبرالي الذي حاز على القيادة السياسية، لم يعش بعد فترة «العودة إلى الضمير»، بحيث يقدم مساعداته لبلدان التخلف والتخليف تلك، فذلك «الضمير» لم يرتق إلى درجة التضامن الوجودي مع هذه البلدان التي لم تحظ بلحظة الخروج من ثنائية «التخلف والتخليف»، بقدر ما أخفقت في الشروع بمرحلة التأسيس مجدداً لتحقيق لحظة ليبرالية (قومية) نهضوية محفزة.