أنت تحتاج لأن تهيئ نفسك لصدمة لغوية قبل أن تستمع إلى الخطب التي ألقيت في المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك) الذي يمثل جماعات الضغط الإسرائيلية في الولايات المتحدة. وسوف يستخدم الخطباء واحداً تلو الآخر كلمات ومفردات قد تتخيل للوهلة الأولى أنك قادر على فهمها، إلا أنهم سيستخدمونها بطرق وأساليب ملتوية بحيث يشوّهوا معانيها للدرجة التي تشعر معها بالتقزز والغضب. وخلال يوم الافتتاح، على سبيل المثال، عبث كل من الرئيس الجديد للجنة «مورت فريدمان» والحاكمة «الديمقراطية»السابقة لولاية ميتشيجن جينيفر جرانهولم، بكلمة «تقدمي» وأشبعوها تحريفاً. وبدافع من نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة التي أظهرت أن إسرائيل فقدت الدعم في أوساط الأميركيين اليساريين، ناشد «فريدمان» التقدميين الأميركيين بالاعتراف بأن «الخطاب التقدمي لإسرائيل مقنع». وقالت جرانهولم في تعقيبها على هذه النقطة بأنها، وباعتبارها «إمرأة تقدمية» فإنها تدعم إسرائيل لأنها «الدولة التي تقدم خدمات الرعاية الصحية الشاملة لمواطنيها، وتحمي حقوق المرأة وحقوق المثليين. إنها بحق تمثل فردوس التقدمية»!. وأما الشيء الذي أغفله هذان المتحدثان عن سبق عمد وإصرار فيتعلق بالحقيقة القائمة من أن هذا «الفردوس» قد تحول إلى دولة تمارس التمييز العنصري «الآبارتيد» وتحتل أراضي الفلسطينيين وتقمعهم وتنكر عليهم حقوقهم كلها. وهي التي صادرت أراضيهم حتى أصبحت حياتهم اليومية جحيماً على الأرض. ولم يقتصر الأمر على هذا التزييف للحقائق، ومع اتجاه الحكومة الإسرائيلية أكثر نحو اليمين، فلقد غرقت في الفساد وحظرت الحريات الدينية. ولم يعد من المعقول نعت الإسرائيليين بأنهم «تقدميون» لأن هذه الكلمة تعني شيئاً آخر لا علاقة له بإسرائيل. ولقد أُصبت بالصدمة أيضاً عندما سمعت وصف السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة "نيكي هيلي" للمنظمة الدولية بأنها أصبحت تمارس «البلطجة ضد إسرائيل» بدعوى أن دول العالم ما فتئت تتقدم بمشاريع قرارات لإدانة الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. ومرة أخرى تسقط الحقيقة على رأسها لأن الأمم المتحدة ليست هي التي تمارس البلطجة على إسرائيل، بل إن إسرائيل هي التي تمارس البلطجة على الفلسطينيين عن طريق انتهاك القوانين والاتفاقيات الدولية. ونظراً لأن الأمم المتحدة هي الكيان الذي أسس دولة إسرائيل، وهي التي وضعت شروط «السلام العادل والدائم» فلقد بقيت مقراً للشكاوى من السلوكيات الشاذة لإسرائيل. ولا يمكن أن نعتبر احتكام الفلسطينيين للكيان الذي يضم دول العالم نوعاً من البلطجة، بل إنه الطريق المناسب للمطالبة بحقوقهم. ولقد تطلب الأمر من خطباء «آيباك» أن يستخدموا ما هو أكثر من الوقاحة التي انطوى عليها اتهامهم للأمم المتحدة بالبلطجة طالما أن اللوبي الإسرائيلي كان يعتمد دائماً على الكونجرس الأميركي لبلطجة الفلسطينيين باعتماد مشاريع القوانين القمعية والمذلة بحقهم. وكان لا يتوقف عن تسليح إسرائيل وإعطائها شيكاً على بياض حتى تستخدم كل هذه الإمكانيات في انتهاك الحقوق المشروعة للفلسطينيين. وكانت هناك بعد ذلك سلسلة لا نهاية لها من محادثات السلام ومشروع الدولتين، وكانت كلها لا تحمل أي معنى له علاقة بالحقيقة والواقع. ولم يعد الائتلاف الحكومي في إسرائيل يؤيد مشروع حل الدولتين منذ بضع سنوات بالرغم من أن الإسرائيليين لا زالوا يزعمون قبولهم بذلك الحل ولكن وفق شروط تجعل تحقيقه مستحيلاً. ويقول الإسرائيليون إنهم يريدون «مفاوضات من دون شروط مسبقة تؤدي إلى قيام دولتين»، ولكنهم وضعوا لأنفسهم شروطاً مثل الإبقاء على حركة الاستيطان وإسقاط حق النازحين في العودة إلى وطنهم ومن دون الاتفاق على تسوية تتعلق بمدينة القدس، واستمرار سيطرة إسرائيل على وادي نهر الأردن، وعلى معابر الدخول والخروج على طول الحدود. والآن، وبعد عقدين من انتخاب نتنياهو للمرة الأولى، ارتفع عدد المستوطنين أربع مرات مع استمرار زحف المستوطنات في الأراضي المحتلة. وبات من الواضح أن قبول إسرائيل بحل الدولتين ليس إلا طريقة تكتيكية لتغطية غزوها لأرض فلسطين كلها وعدم الالتفات لاحتجاجات الشعب الفلسطيني. وفي مواجهة هذه الحقائق، كان من باب الهزل أن يعلن الرئيس الجديد لمؤتمر «آيباك» عن دعم منظمته لحل الدولتين وزعمه أن هذا الهدف غير قابل للتحقيق لأنه اصطدم بالفشل الفلسطيني. إلا أن أعضاء حكومة الائتلاف في إسرائيل لا يشعرون بعد الآن بالحاجة لورقة التوت لإخفاء نواياهم الحقيقية. وتواصلت لغة قلب المفاهيم رأساً على عقب في مؤتمر «آيباك» من خلال لافتتين كتبت على إحداهما عبارة «حرية التعبير وحرية الصحافة في إسرائيل». وكانت فوقها لافتة أخرى وردت فيها العبارة التالية: «هذه الجلسة مغلقة أمام الصحافة». ولا شك أن هذا التناقض غني عن التعريف. وإذا لم تكن هذه المزاعم كافية لتشويش العقل، فلقد كانت هناك مزاعم أخرى تتحدث عن «الجيش الإسرائيلي الأخلاقي»، والحاجة لمواجهة الأخبار الملفقة التي ينشرها الفسطينيون حول جيش احتلال والعنف الذي يمارسه ضد الأطفال الفلسطينيين. ولحسن الحظ، فإن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد لأن استطلاعات الرأي توحي بتحرك جديد في أوساط الرأي العام حول الموقف من إسرائيل والفلسطينيين. وبالرغم من أن «الجمهوريين» بمن فيهم المحافظين الجدد ما زالوا في صف إسرائيل، إلا أن "الديمقراطيين" أصبحوا منقسمين حول هذا الموضوع. ولا شك أن السجال القاتل بين الحقيقة والنفاق سوف يتواصل في مؤتمر «آيباك». جيمس زغبي* *مدير المعهد العربي الأميركي - واشنطن