ليس أمراً عادياً أن يصمد أهل الغوطة أمام هجوم عسكري ضخم تشنه روسيا بكل ما لديها من قوى عسكرية مدمرة، وإيران بكل ما لديها من حقد تاريخي، وعسكر النظام وشبيحته بكل ما لديهم من وحشية وهمجية، وقد استمر صمود أهل الغوطة نحو ست سنوات منذ أن حاصر النظام مداخلها، وقطع عنها كل وسائل الحياة وبخاصة الغذاء والدواء، وتمكن أهل الغوطة من أن يبدعوا احتياجاتهم بالصبر على قسوة ما يتعرضون له يومياً من قصف وقتل وتدمير وتجويع واعتقالات، وتداعى شباب الغوطة ورجالها ونساؤها للدفاع عن حياتهم وأعراضهم، فشكلوا قوى وطنية سرعان ما امتلكت خبرة الدفاع والمواجهة، وأصبحت قادرة على التحدي والصمود، وقد تمكنت قوى الطغيان من أن تشوه ثورتهم من خلال دعم المتطرفين، مثل إرهابيي «داعش» و«النصرة» (وبعضهم لا يزالون إلى اليوم في كنف النظام في الحجر الأسود واليرموك وفي الجنوب السوري) ليكونوا ذريعة النظام وحلفائه في حملة الإبادة للشعب السوري، وكان طبيعياً أن تظهر مسميات إسلامية للفصائل المقاومة، بعد أن دخل «حزب الله» ومثله عشرات الميليشيات بأسماء دينية، من «الزينبيين» و«الفاطميين»، و«عصائب الحق»، وسواها ممن يحملون رايات طائفية تستنهض تاريخ صراعات سياسية ومذهبية دينية، تقودها إيران التي تتباهى بكونها سيطرت على عاصمة الأمويين، بعد أن تمكنت من السيطرة على عاصمة العباسيين، وعلى بيروت، وهي تمد خنجرها في اليمن، وتطوق عنق الأمة العربية من الشمال والشرق والجنوب، وتدعهما روسيا التي وجدت في ضعف سوريا فرصة لاستعادة حضورها الدولي على حساب الدم السوري. ولقد كان عجز الأمم المتحدة عن تنفيذ قرارها 2401 الداعي لهدنة لمدة شهر في الغوطة إعلاناً مثيراً عن ريبة في مكانة الأمم المتحدة، مما دعا سفير فرنسا في مجلس الأمن إلى القول (ستكون الغوطة مقبرة الأمم المتحدة) ويوم أمس الأول عقد مجلس الأمن جلسة مغلقة لبحث موقفه من الاستهانة الروسية بقراره، وأتوقع أن تكون المداخلات قد ناقشت ما ينبغي عمله لمواجهة هذا التحدي الروسي الخطير الذي يدعونا إلى الظن بأن الدول الكبرى في العالم أمام إحدى حالتين، إما أنها باتت عاجزة حقاً عن مجابهة روسيا، وإما أنها تغض الطرف عن الجرائم التي ترتكب ضد السوريين، ولكنها تحاول إرضاء الضمير العالمي، في التصريحات الغاضبة التي يطلقها بعض قادتها. لكنني أميل إلى ترجيح الحالة الأولى، فأوروبا تشعر بخطر تنامي النفوذ الروسي في الشرق الأوسط حيث مصالحها الاستراتيجية، وبوابتها إلى الشرق والجنوب، كما أن الولايات المتحدة باتت مهددة بفقدان دورها القيادي والريادي المفترض للعالم، وقد وعد ترامب شعبه باستعادة قوة أميركا وهيبتها التي تتعرض لانهيار أمام شعوب العالم، لكن يد السفير الروسي ترفع «الفيتو» مرات، فتعطل مجلس الأمن، وتجعل أعضاءه يقفون حائرين واجمين، والمفارقة المهمة أن العالم كله يعلم أن الولايات المتحدة قادرة على حسم الأمر عسكرياً، لكن ذلك قد يجعل العالم على شفا حرب عالمية جديدة، ثم هل تدخل دول عظمى حرباً دولية لإنقاذ الشعب السوري؟ والمفارقة الثانية أن السوريين لم يطلبوا من دول العالم الكبرى أن تدخل حرباً من أجلهم، إنما هم يطلبون أن تكون الدول العظمى جادة لإيجاد حل سياسي ضمن ما قررته الأمم المتحدة ذاتها وما خطته يد لافروف نفسه من بيان جنيف إلى القرار 2254. ويعتقد كثير من السوريين أن الولايات المتحدة التي منعتهم من امتلاك أسلحة مضادة للطيران هي التي مكنت روسيا من تحقيق خطتها في تدمير سوريا عبر سلاح الجو، فلو أن الشعب السوري تمكن من إسقاط بعض الطائرات الروسية لتغيرت خريطة الموقف العسكري، ذاك أن الروس والإيرانيين وكل الأحزاب الطائفية لاتستطيع أن تواجه الشعب السوري على الأرض، لكن الشعب لايملك القدرة على صد الصواريخ التي تنهال عليه من الطائرات التي تحلق في ارتفاع لاتصل إليه أسلحتها الخفيفة، وقد تمكن من إسقاط العديد من الطائرات المعادية التي حلقت في ارتفاع منخفض، ولم تستطع أساطيل روسيا الجوية والبحرية ومعها إيران والميليشيات الطائفية أن تخضع إرادة السوريين الذين تحملوا من الفواجع ما لا يطاق، وهاهي ذي الغوطة الشرقية تصمد أمام قوى دولية وتجعل روسيا مهددة بأن تكون دولة مارقة ما لم توقف هذا العدوان الذي يشكل اليوم أخطر تحد تواجهه الأمم المتحدة، التي تفقد مصداقيتها إن لم تتمكن من تنفيذ قراراتها، وندعو الله أن تكون الغوطة مقبرة الغزاة، بدل أن تكون مقبرة الأمم المتحدة.