لفهم أحداث الجريمة الإنسانية ضد سكان الغوطة الشرقية في ريف دمشق الشرقي، فإن الأمر يحتاج إلى قراءة معمقة تعود إلى عام 2011 عندما بدأت الفوضى السياسية في سوريا برفض النظام السوري بقيادة بشار الأسد إدخال أية تعديلات أو تحسين في نظامه، مفسحاً المجال أمام دخول قوى دولية وإقليمية، ومعها أذرعها السياسية الطائفية، في إقرار مصير الدولة السورية وشعبها. يومها قال لإحدى الصحف الأجنبية بأن «سوريا غير»، مقارنة بتونس ومصر، وكان الأمر لم يتضح بعد في ليبيا. ورغم تصويت مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة بالإجماع، مؤخراً، لصالح مشروع الهدنة لمدة 30 يوماً، إلا الحقيقة المرة، والتي يحاول الكل التهرب منها، هي أنه لا أحد يريد إيقاف الحرب السورية، سواء من القوى الكبرى، مثل روسيا والولايات المتحدة التي دخلت متأخرة في الحرب بعدما أوشكت على الانتهاء من محاربة «داعش»، ولا إيران التي باتت لديها أذرعها هناك وتقوم بجرائم إنسانية ربما تفوق النظام نفسه لأنها المستفيد الأكبر من هذه الحرب، ولا حتى تركيا التي بدأت تقلق من أن تكون هي الطرف الخاسر في قسمة الكعكة السورية، ولا حتى إسرائيل التي تبحث عن عمق استراتيجي يحافظ على أمنها. فإيقاف الحرب ليس أولوية أحد من هؤلاء اللاعبين السياسيين هناك، وإنما هناك محاولات يقوم بها كل طرف، إقليمياً كان أم دولياً، لإحراج الطرف الآخر وتسديد ضربات سياسية له من أجل إعادة التموضع في سوريا. هذا الكلام ليس انطباعات أو خيالاً سياسياً، وإنما هو الواقع الحقيقي الماثل؛ فالكل يبحث عن مصلحته السياسية في هذه الحرب وغير مستعد لإيقافها إلا بعد أن يضمن نصيبه من الكعكة، وبالتالي فالحديث عن مسؤولية طرف أكثر من الآخر هو مسألة نسبية فقط، إذ الكل يشترك في الجريمة. قد تكون هناك فروقات بين اللاعبين في سوريا نتيجة لحجم التغلغل في الحرب، خاصة عندما يستعينون بأفراد يتمتعون بـ«نفس طائفي»، لذا فإن النصيب الأكبر من الاتهام يقع على إيران وحليفها روسيا وأذرعها السياسية، وخاصة «حزب الله» اللبناني، إذ عمل هذا الكوكتيل فعلياً على زيادة القتل ضد الشعب السوري منذ عام 2011 من أجل استمرار نظام الأسد أو إرهاق العالم من أجل القبول ببديل الأسد وفق معاييرهم، بديل لا يخرج عن المصالح الإيرانية والروسية التي باتت استراتيجية في سوريا. الاتهامات المتبادلة فيما يتعلق بالمسؤولية عما يحدث في سوريا سلطت الضوء على وجه آخر للحرب، بل إن تصريحات المسؤولين العسكريين الإيرانيين بعد قرار مجلس الأمن الدولي حول الهدنة، أكدت حجم طموحاتهم في سوريا من خلال رفضهم الالتزام بوقف إطلاق النار تحت ذريعة محاربة التنظيمات الإرهابية، والتي يقصدون بها المعارضة السورية، حيث أكدت إيران استمرار الحرب ضد هذه المعارضة السورية، إذ الدفاع عن نظام بشار الأسد هو أحد أوجه استمرار الحرب. ومن الواضح الآن أن المسألة تتجاوز استباحة الغوطة الشرقية أو حلب وقتل الأبرياء من الشعب السوري، إلى تأسيس مرحلة جديدة في العلاقات الدولية بين القوى الموجودة في سوريا، وخاصة روسيا والولايات المتحدة باعتبارهما القوتين العظميين، وإن كان لإيران تأثير كبير على الأرض، فإنه يبقى باستطاعة روسيا تحجيمها متى ما أرادت ذلك، إذ تظل روسيا حتى الآن القوى الوحيدة المسيطرة في سوريا، وبالتالي فأي مسوغات لها علاقة بالأسباب الإنسانية ربما لن تكون مقبولة لدى موسكو، حتى لو تم تحميل أي طرف مسؤولية عدم الالتزام بالهدنة، إذ عادة ما تكون الهدن في سوريا هشة. وهكذا يتضح أن الكل يستخدم الشعب السوري كدرع له. ما يحدث في الغوطة الشرقية حالياً يذكرنا بما كان يحدث في البوسنة والهرسك، فبينما كانت روسيا تساند القوى السياسية الصربية هناك، كان المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة متفرجاً إلى أن شعر الغرب بأنه قد يخسر مصالحه هناك، وحينئذ فقط تدخل متسبباً في زيادة التنكيل بالشعب البوسني. قد تكون تلك استراتيجية أميركية هدفها زيادة حجم فاتورة خسائر الخصم قبل مواجهته والقضاء عليه، لكن الصراع في سوريا يبدو بداية لتحول كبير في المنطقة! السؤال المثار حالياً حول مشهد النهاية للأزمة الإنسانية السورية: ماذا بعد قرار مجلس الأمن الدولي؟! الرأي العام العالمي تصدمه بين الحين والآخر المذابح التي يرتكبها النظام السوري، الأمر الذي تحول إلى مسلسل شبه يومي. والشيء الغريب أنه حتى عندما يكون هناك أمل بسيط بإنهاء الأزمة، سرعان ما تأخذ الأمور منعطفاً آخر نتيجة لخلافات على تقسيم المصالح، ليسيطر الغموض مجدداً حول وضع نهاية للحرب، وبالتالي تظل كل الاحتمالات مفتوحة في ظل التنافس الدولي المحتدم. ووفق المؤشرات على الأرض فإن الحرب مستمرة، وبالتالي فإن حملة قتل الشعب السوري وتهجيره مستمرة أيضاً. فقرارات المجتمع الدولي غير قادرة على إجبار اللاعبين الأساسيين في سوريا، بما فيها القوى الإقليمية على التوقف عن القتل أو كسر شوكة الأذرع السياسية المنتشرة هناك، لأن كل طرف له مصالحه ولن يتراجع خطوة؛ فمصلحته السياسية ليست في بقاء الدولة السورية ولا شعبها. وعلى هذا الأساس فإن أي حل يرضي كل الأطراف هو غير وارد حالياً، لأن العقل السياسي لدى المتصارعين على تقسيم سوريا لا يؤمن إلا بالمعادلة الصفرية، حتى ولو أدت الحرب لتهجير أو قتل كل السوريين. وربما هذا الذي كان يقصده بشار الأسد في بداية الاحتجاجات عندما قال: سوريا غير!