بدأت المواجهة فعلاً، وبعقلية حرب باردة جديدة مختلفة المفاهيم والمعايير عن الحرب السابقة. صحيح أن العالم ليس منقسماً بين معسكرَين واضحي المعالم على الخريطة، إلا أن دفاع روسيا والصين عن عالم متعدد الأقطاب ينبئ بأن «معادلة الرعب» باتت متعددة الأطراف أيضاً. فلاديمير بوتين لا يكتفي بإعادة روسيا إلى مكانتها السوفييتية، بل يتجاوزها، ولذلك تعمّد الإصرار على أن كل منظومة أسلحة تحدث عنها في خطابه الأخير «تتغلّب بسهولة» على المنظومة الدفاعية الأميركية المضادة للصواريخ. الرئيس الصيني شي جين بينغ ضَمن أخيراً بقاءً مديداً في منصبه، ويعمل بهدوء وصمت على «منظومة ردع» لإبعاد أميركا عن منطقة النفوذ الصيني في جنوب شرقي آسيا. أما الولايات المتحدة، فكانت أعلنت أواخر يناير الماضي عن استراتيجية دفاعية أولويتها «الاستعداد السريع للحرب في أي وقت»، وقال وزير الدفاع «جيمس ماتيس» أن «التركيز الرئيسي للأمن القومي الأميركي هو على منافسة القوى العظمى مثل الصين وروسيا وليس الجماعات الإرهابية». عدا استغلال الاستحقاق الانتخابي، بعد أسبوعين، وجد بوتين أن الفرصة مؤاتية لاستعراض قوة يُنسي ناخبيه معاناتهم الرئيسية مع الوضعَين المالي والاقتصادي، ويأخذهم إلى طموح آخر: استعادة عظمة روسيا. أنه يسمّي ما يجري سباقاً إلى التسلّح وليس حرباً باردة جديدة، وأياً ما يكون التوصيف فإن تمثّلاته ومفاعيله تبقى هي نفسها. فالهدف كان الردّ على الاستراتيجية الأميركية التي قال «ماتيس» إنها تعتزم تحديث القدرات بـ «الاستثمار في مجالات الردع النووي والدفاع الصاروخي والفضاء الإلكتروني»، وكشف بوتين في ردّه أن روسيا اختبرت صواريخ مبرمجة غير محدّدة المدى، وطائرات من دون طيار تعمل بالطاقة النووية، وتستطيع استهداف حاملات الطائرات والمرافق الساحلية الأميركية، وذلك بمأمن عن أي «اعتراضات من الأعداء»، ويمكنها أن تجعل نظام صواريخ حلف شمالي الأطلسي «بلا فائدة». وعلى الفور اشتعل السجال الذي اتهم فيه البنتاجون روسيا بانتهاك اتفاقات مبرمة منذ 1987 وآخرها «ستارت» لخفض عدد الرؤوس النووية، فيما أشار بوتين إلى انسحاب أميركا من اتفاق الدفاع المضاد للصواريخ. وهكذا فبين الرئيس الروسي وتظهيره القوة التي «لا تُقهر ولا تُردع» وبين البنتاجون الذي «لم يُفاجأ» و«المستعد تماماً»، من الطبيعي أن يقلق العالم. وأكثر القلقين هم الأوروبيون، خصوصاً أن بوتين ووزير دفاعه سيرجي شويجو تقصّدا تأكيد أن الأسلحة الجديدة مكّنت روسيا من تجاوز مخاطر منظومة صواريخ «الناتو»، التي كانت تدعو إلى خفضها أو إبعادها عن بولندا ورومانيا والاسكا. ولم يُفهم بوضوح ما اذا كانت اتصالات الرئيس الأميركي مع نظيره الفرنسي والمستشارة الألمانية، غداة تصريحات بوتين، استهدفت تبديد القلق أو توكيد وضعية التحالف، إذ أن دونالد ترامب لم يتخلَّ عن مواقفه الغامضة حيال «الناتو». لطالما كانت أميركا مطمئنة إلى تفوّقها، فهي دائماً سابقة خصومها بأشواط، بحسب الخبراء، مع فارق أن سياسات ترامب تثير حالياً بلبلة مع الحلفاء قبل الأعداء. فاللافت أنه في غمرة ردود الأفعال على الاستعراض الروسي كان ترامب يعلن خطوات جديدة في «الحروب التجارية» التي يعتبرها «جيدة ويمكن كسبها». إذ اتخذ إجراءات اقتصادية حمائية تزيد الرسوم على واردات الصلب والألمنيوم، والأوروبيون كانوا أول المحتجّين لأن هذه الإجراءات تُضاعف مصاعبهم، وتهدّد آلاف الوظائف لديهم. من الواضح أن استراتيجيات أميركا - ترامب تفتقد الترابط وتتجاوز الضوابط سواء في «الناتو» عسكرياً أو في منظمة التجارة العالمية اقتصادياً، وبالتالي فهي تزعزع الاستقرار العالمي. أما روسيا والصين فتراقبان، وفي مناخات اضطراب كهذه استطاعتا سابقاً أن تعزّزا قوّتيهما، لكن حروب أميركا التجارية تستهدفهما أيضاً. لا شك أن للتسلّح والتحدّي الروسيين دوافع استراتيجية لكنهما يُعزيان عند بوتين إلى غضب كامن إزاء العقوبات الغربية بسبب الأزمة الأوكرانية، وكذلك إلى فشله السياسي في استدراج أميركا إلى الصفقة الكبرى التي تخيّلها حول أوكرانيا وسوريا وأوروبا. لكن أسلحته الجديدة لا تحلّ الأزمة مع الغرب، بل تجعل السباق أكثر تكلفة لروسيا، ولعله لم ينسَ أن سباقاً كهذا كان بين أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي، ثم أن وعوده التنموية الضخمة لا تكفي لمعالجة أزمة روسيا الاقتصادية، وهو يعلم أن أحداً لن يسائله في شأنها. ويبقى الأكثر اقلاقاً في هذا السباق أنه ينذر بترك النزاعات الإقليمية مفتوحة للحروب بالوكالة. لم يُخف بوتين بل كرّر أن سوريا كانت حقل تجارب مفيدا لأسلحته، وهو لم يقل كلمته الأخيرة في العديد من الأزمات المشتعلة في الشرق الأوسط.