لقد كنت شغوفاً بالغوص في عالم السياسة خلال حياتي كلها. وكان هناك مصدران أساسيان للإلهام الذي اكتسبته في هذا الميدان منذ طفولتي، إنه الإلهام الذي صقل خبرتي في التفكير وعزّز من قدرتي على الأداء والإنجاز. وورثت عن أمي اقتناعها بأن الدور الإيجابي الذي يمكن للحكومة أن تلعبه يتعلق أساساً بالاهتمام بأولئك الذين يحتاجون للمساعدة. وكانت حكومتنا ذات مرة هي التي تتولى مهمة بناء المدارس وتشييد الأسس التي تقوم عليها البنى التحتية، وهي التي كانت تحمي حقوقنا وتضمن سلامتنا وأمننا. ولكن، عندما تعرضت تلك الحكومة للضغوطات السياسية، أصبحت عاجزة إلى حد كبير عن تحقيق العدالة الاقتصادية المنشودة. ومن خلال ثقافتي الكاثوليكية، أدركت معنى القِيَم التي تقوم عليها العدالة الاجتماعية والتي تحمّلنا مسؤوليات الاهتمام بأوضاع أولئك الذين يحتاجون للمساعدة والاعتراف بحقوق الآخرين. وتعلمت أيضاً من قصة قابيل وهابيل بأن أكون «حامياً وراعياً لأخي» كائناً من كان، لأننا جميعاً متساوون أمام الله، وكنت مؤمناً بأنني سوف أُحاسب عن أي تقصير في ممارسة هذا الاعتقاد. وبعد أن نشأت على القناعة بصواب هذا الأسلوب في التفكير، وجدت ضالّتي في الانتساب للحزب «الديمقراطي»، وبعد فترة قصيرة من الانبهار بالفكر المحافظ عندما كنت في مرحلة المراهقة، دخلت مرحلة إعادة البحث عن الذات واكتشاف المعاني الحقيقية للأشياء. وشعرت أنني عثرت على ما أريد في كتاب باري جولدووتر (ضمير الرجل المحافظ) وكتابات آين راند. وخُيّل إلى لأول وهلة أن الفلسفة التي يقوم عليها الفكر المحافظ كما يعرّفه روّاده، تتطابق مع توجهاتي وحاجاتي الشخصية، ومنها أن الأنانية هي فضيلة، والنجاح الشخصي هو هدف نبيل حتى لو كان على حساب الآخرين، وأن أولئك الذين لا يستطيعون تحقيقه هم عبء ثقيل على المجتمع، وأن الحكومة ذاتها ليست أكثر من عائق لتعطيل الحريات الشخصية. وكانت هناك ثلاثة عوامل ساهمت في تغيير آرائي تلك وإعادتي إلى الجذور. ففي المقام الأول، اكتشفت أن من غير المنطق أن أتقبل رؤية العديد من المحافظين وهم يلوّحون بالشعارات القومية الشوفينية ويروّجون للعنصرية. وتذكّرت أيضاً التعاليم التي ورثتها عن أمي. وظهرت في تلك الفترة حركتان اجتماعيتان عمّت نشاطاتهما السياسية أميركا كلها. كانت إحداهما ضد الحرب في فيتنام، ورفعت الثانية شعارات تطالب بالحقوق المدنية للأميركيين ذوي الأصول الأفريقية والذين عانوا من الظلم لفترة طويلة. ولم أفهم أبداً كيف يمكن لأدعياء الفكر المحافظ أن يعترضوا على مطالب هاتين الحركتين وبمثل هذه القوة. وتساءلت: «أليس من حق أي إنسان أن يحمل الاعتقاد بأن تلك الحرب كانت غير أخلاقية وظالمة؟ وكيف يمكن لأي إنسان يؤمن بالحرية الشخصية أن يعترض على حقوق الآخرين في التعبير عن قناعاتهم بأن الحرب كانت خطأ؟ ولقد شعرت بالإحباط بعد سماع الحجج غير المقبولة التي كان يرددها«المحافظون» الذين رفعوا شعار:(هذا بلدنا، وسيبقى كذلك لو كنا على صواب أو على خطأ)، وبدؤوا بعد ذلك بتشويه صورة كل من يعارض آراءهم ومواقفهم. وعلى نحو مشابه، شعرت بالحيرة والاستغراب من المواقف العدائية للمحافظين ضد الأميركيين الأفارقة الذي يطالبون بالمساواة في الحقوق مع بقية المواطنين. أليس السود أيضاً بشراً يستحقون التمتع بالحرية الشخصية؟. وكنت أشعر أنه لا توجد حجّة فلسفية يمكنها أن تبرر التمييز العنصري. وكان مما يبعث على الأسى والإحباط أكثر أن أستمع لطروحات بعض دعاة الفكر المحافظ وهم يستخدمون أقسى التعابير والمصطلحات العنصرية في وصف «المجتمع الأسود». واكتشفت مرة أخرى أن التزامهم بالمبادئ التي يتشدقون بها بات يحتل مرتبة متأخرة من اهتماماتهم في مقابل تمسكهم بجذورهم العنصرية. ولقد ذكرني ذلك بحكمة مهمة عندما قالت لي أمي ذات مرة:«إياك أن تنكر حقوق الآخرين بالحصول على ما تريده لنفسك». وشعرت في تلك الفترة بضرورة التخلي عن الأنانية التي لازمتني في فترة المراهقة. وبدأت أدرك أن الأساس الماكر الذي يقوم عليه الفكر المحافظ كان يرتكز على «النرجسية» التي تكرّس الاهتمام بالفرد وتتنكر للمفاهيم الإنسانية والمسؤوليات الجماعية. وما يدفعني لإعادة التفكير في كل ذلك هو أننا نعيش في عصر أصبحت فيه النرجسية الغاضبة تقدم نفسها على أنها هي التي تمثل الفكر المحافظ. وهي التي كُتب لها أن تطفو على سطح الفكر السياسي القائم الآن. وعندما عقدت منظمة المحافظين مؤتمرها السنوي في واشنطن الأسبوع الماضي، كانت الرسائل المقدمة على منبر الخطابة تتألف من خليط ممجوج من عقدة رُهاب الأجانب الذي يتحدث عنه البيض، ومعارضة الهجرة، وعداء المسلمين، والتنكر لحقوق المرأة والفقراء، والخطاب المؤيد لحمل الأسلحة الفردية. وكان هناك قبول أعمى بمبادرات الرئيس ترامب الذي حظي بحفاوة بالغة عند حضور المؤتمر. وأغفل كل المشاركين فيه الضرر الذي يحدثه في ثقافتنا وإحساسنا الاجتماعي، وأصبحت المشاعر الوطنية والفكر المحافظ يمثلان الآن قوة الدعم الصادقة للقائد. إنها بالفعل أوقات عصيبة وخطيرة عندما يتم وقف العمل بالقيم وتصبح القسوة والغضب والدعوة للانقسام هي اللغة المشتركة للخطاب السياسي القائم الآن. *مدير المعهد العربي الأميركي في واشنطن