وضعت محاولات الانقلاب العسكري على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نهاية لشهر العسل (الذي دام عدة عقود) بين تركيا وحلف شمال الأطلسي. ودفعت العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا إجراءات الطلاق بينهما إلى مراحلها الأخيرة. فإثر محاولة الانقلاب بادر الرئيس اردوغان إلى سجن وتسريح 400 عسكري تركي كانوا يعملون في دوائر الحلف الأطلسي. من هنا التساؤل عن علاقة الحلف بمحاولات الانقلاب الفاشلة، وبالتالي عن مستقبل علاقة تركيا بالحلف. ذهب أردوغان إلى أبعد من ذلك عندما فرض قيوداً مشددة على حركة القوة الجوية الألمانية التي كانت تتمركز في قاعدة إنجرليك، حتى أنه لم يسمح لوفد برلماني ألماني بزيارة وحدات هذه القوة التي كانت تقوم بمهات عسكرية في سوريا ضد «داعش»، ما حمل الحكومة الألمانية على نقل وحداتها من تركيا إلى قاعدة «موفق السلطي» في الأردن التي تشرف عليها الولايات المتحدة. ووجد الرئيس التركي نفسه في الجبهة السورية في خندق واحد مع روسيا (فلاديمير بوتين)، وعلى طرفي نقيض مع الولايات المتحدة (دونالد ترامب) حليفه الرسمي في «الناتو». ولعل «القشة التي قصمت ظهر البعير» في علاقات تركيا بالحلف تتمثل في صفقة صواريخ «أس -200» الروسية التي أبرمها أردوغان مع بوتين في شهر ديسمبر 2017. فنظام عمل هذه الصواريخ لا يتناسب مع نظام الدفاع المعتمد لدى الحلف الأطلسي، ثم إن تشغيل منظومة هذه الصواريخ المتطورة منوط بالخبراء الروس ولفترة غير قصيرة، فهل يُعقل أن يكون هذا السلاح الجديد وبإشراف هؤلاء الخبراء الروس في خدمة الاستراتيجية العسكرية لحلف الأطلسي؟ في الأساس تشكلَ الحلف لمواجهة الاتحاد السوفييتي السابق، ويستمر الحلف اليوم لمواجهة الاتحاد الروسي. ولقد أثبتت وقائع العلاقات بين الكريملن والبيت الأبيض، وبين الكريملن وبروكسل (الاتحاد الأوروبي) أن الصراع بين الشرق والغرب الذي خمد قليلاً بعد انتهاء الحرب الباردة (بسقوط جدار برلين) قد عاد سيرته الأولى (باحتلال روسيا شبه جزيرة القرم). وفي الأساس أيضاً جرى ضم تركيا إلى الحلف منذ تأسيسه بسبب موقعها الاستراتيجي المهم، وتحولت إلى رأس حربة للحلف في مواجهة الاتحاد السوفييتي، فإذا بها اليوم تنتقل من العداء لموسكو إلى التحالف معها. تتهم دول الحلف تركيا بأنها – بعد محاولة الانقلاب العسكرية ونتيجة لها – تراجعت عن الكثير من المبادئ الديموقراطية التي يشترط أن تلتزم بها دول الحلف. مع ذلك تتجنب هذه الدول اتخاذ أي إجراء ضد تركيا، بل إنها على العكس تحاول استيعاب رد فعلها حتى تبقى في الحلف، وحتى تعود إلى الالتزام بسياسته. فالولايات المتحدة والدول الأوروبية الأخرى لا يمكن أن تضحي بموقع تركيا الاستراتيجي، إضافة إلى أنها تمثل ثاني أكبر جيش في الحلف. ولا تزال تركيا ملتزمة باتفاقيتين عسكريتين مع منظومة حلف الأطلسي. وتقوم الاتفاقية الأولى على صفقة طائرات «أف-35» التي لا تستطيع الرادارات الحديثة اكتشافها. وستكون هذه الطائرات –وحصة تركيا منها 116 طائرة – العصب الجديد لسلاح الجو. ولكن استمرار العمل بهذه الصفقة يتناقض مع صفقة صواريخ «أس-400» التي ابرمتها تركيا مع روسيا، هذه الصواريخ أعدت لمواجهة هذه الطائرات! أما الاتفاقية الثانية، فتقوم على صفقة صواريخ مضادة للصواريخ تقوم بانجازها مؤسسة «بور وسام» الأوروبية. وهي منظومة تستهدف أساساً صواريخ «أس-400» الروسية الحديثة.. التي أصبحت جزءاً من السلاح التركي. لا تستطيع تركيا أن تستمر في حلف الأطلسي وفي الكرملين معاً. فالزواج مع الحلف يتناقض مع متطلبات العلاقات مع العشيق الروسي. وعلى الرئيس اردوغان أن يختار.. وهو اختيار صعب بالتأكيد.