لا بدّ أن تكون التحليلات الأميركية لتداعيات قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل أظهرت لإدارة ترامب أن الخطوة لم تكن ولن تكون مفيدة إذا كان الهدف منها، كما هو معلن، «دفع عملية السلام» بين الفلسطينيين وإسرائيل. ربما لم يقل أيٌّ من المستشارين للرئيس أنه ارتكب إجحافاً في حق الفلسطينيين، فهم يعلمون جيداً أنه اتخذ القرار انطلاقاً من حرصه على مصلحته وعلى مكافأة بعض مَن موّلوا حملته الانتخابية ودعماً للعلاقة التحالفية مع إسرائيل. وعندما تتوفّر عناصر كهذه لدى أي رئيس يدير أميركا بعقلية رجل أعمال فإنه لن يتردّد في حسم خياره، لكنها عناصر توفّرت أيضاً لمعظم الذين سبقوه إلى البيت الأبيض وامتنعوا مع ذلك عن المسّ بوضع القدس، لاعتبارات سياسية جدّية، واضحة ومفهومة، تتعلّق بمسؤوليات أميركا وواجباتها كدولة كبرى. هذه الاعتبارات هي ما يمضي ترامب في تغييره، وليس في الملف الفلسطيني فحسب، لكنه استسهل البدء بهذا الملف متشجّعاً بعوامل ثلاثة: الأول، عدم تردّد إسرائيل بل استعدادها الدائم لاستخدام أقصى القمع لكسر أي احتجاج فلسطيني بالقوة. والثاني، انشغال العرب بمشاكلهم «الوجودية» وعدم قابليتهم لتشكيل مقاومة فاعلة لقراره، مع افتراض أنهم يرغبون في ذلك. والثالث، أن الملف مقفل أصلاً أمام تدخّل أي أطراف دولية أخرى اعتادت على أن تُدعى فقط إلى الحضور الشكلي في الصورة، أو إلى تقديم المساهمة المالية التي تُطلب منها، ولذلك، فإن تحذير ترامب بأن قراره في شأن القدس ربما يعرقل عمل الدبلوماسية الأميركية ما كان ليقلقه، معتبراً أن ثلاثة من الرؤساء قبله فشلوا في الشرق الأوسط، لأنهم في نظره قاربوا القضية بالأفكار ذاتها، ولم يُقدِموا على أي خطوة جذرية لتحريك الملف، فكان أن تناقلوا خلاصات مفادها النصح بإبقاء الوضع على حاله، لأن طرفَي الصراع لا ينفكّان يتباعدان، أما هو فأراد تغيير القاعدة، ولو بتجاوز القانون الدولي. خارج أميركا وإسرائيل لم يؤيّد أحد قرار ترامب، وحتى العواصم التي لا ترفضه ضمناً لم تتمكّن من إغفال الخطأ التاريخي الذي ينطوي عليه، باعتباره يقوّض أي تسوية عادلة، ولا يؤسّس لأي سلام مقبول ودائم. لكن الجميع انتظر «الخطة» المتكاملة، التي قالت الإدارة إنها في صدد إعدادها لإطلاق المفاوضات. وقالت السفيرة «نيكي هايلي» أخيراً إن هذه الخطة باتت «شبه جاهزة» وإنها لن تعجب الفلسطينيين ولا الإسرائيليين، لأنها تتطلّب «تنازلات» متبادلة، لكنهم «لن يستطيعوا أن يرفضوها»، ما يفترض أنها تتضمّن «حوافز». لم تُكشف بعد بنود الخطة الموعودة منذ نحو العام، وتعرّضت لعشرات التعديلات، ويبدو أنها قد تُعلَن منتصف مايو المقبل بالتزامن مع نقل السفارة رسميّاً إلى القدس، إلا أنها مسبوقة بمآخذ غير مشجّعة، أهمّها أنها تُعدّ بمساهمة إسرائيلية مباشرة ومفاهيم إسرائيلية يتبنّاها «فريق ترامب» رغم مخالفتها للقانون الدولي (لا وجود لاحتلال، لا قيود قانونية على الاستيطان، لا تواصل جغرافياً بين أجزاء أي دولة فلسطينية مزمعة، لا بحث في أي حق للاجئين في العودة أو التعويض...). ومن المآخذ أيضاً ذلك الانحياز «الأيديولوجي» غير المسبوق الذي تبديه الإدارة سواء من خلال سفيرها في تل أبيب أو مبعوثها الخاص. ماذا عن «الحوافز»؟ لا أحد في الإدارة يجهل أن قرار القدس أحدث اختلالاً، وأن أي سياسة لا يمكن أن تُبنى فقط على التحدّي والتعنّت، أو على الضعف الفلسطيني، أو حتى على وضع عربي مأزوم. فهل تأتي واشنطن بأطروحة تقيم «توازناً» ما مع قرار القدس، وهل تستخدم هذا القرار كنوع من «الضغط الناعم» على إسرائيل لتلتزم علنيّاً ورسميّاً بوقف الاستيطان أو لتقبل علناً ورسمياً مبدأ «حل الدولتَين»، وهل يعني ذلك عودة أميركية إلى احترام الشرعية الدولية في أي «خطة سلام» تقترحها؟ كل ذلك قد يبدو أوهاماً، لأنه يفترض أن تغيّر أميركا وإسرائيل معظم مقارباتهما للحل السلمي، ولا يبدو أنهما مقبلتان على ذلك. فالسفيرة «هايلي» تكرّر دائماً أن الأمم المتحدة «منحازة بشكل صارخ عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل». لكن الآخرين يرون العكس، وهو أن واشنطن منحازة بشكل صارخ عندما يتعلّق الأمر بفلسطين، أما الأمم المتحدة فتلتزم ما يتفق عليه المجتمع الدولي، وما طرحه الرئيس الفلسطيني أمام مجلس الأمن، لم يخرج عن هذا الإطار، ولا يمكن لوم أي صاحب قضية في العالم، فلسطينياً أو غير فلسطيني، لأنه يطالب بتفعيل الشرعية الدولية حتى لا يبقى شعبه تحت رحمة سلطة الاحتلال.