كانت المفاجأة كبيرة حين تم العثور على متناقضات في كهف واحد، جنوب حيفا بمسافة 12 كم، على جمجمة إنسان يعود إلى العصر الحجري، تمت معالجته على يد جراح من تلك العصور، بفتح جمجمته بسبب خراج، وجمجمة أخرى لشخص تم تفجير رأسه بطلقة تعود إلى زمن نابليون أثناء زحف باتجاه عكا، ثم تراجعه بعد موت الجنود بالطاعون، وثالثة تعود إلى أيام روما لشخص أنهى حياته على المصلبة من بقايا مسمار طويل في عظام العقب عنده. ونحن نعرف أن الثائر «سبارتاكوس» انتهت حياته صلباً، وعلى طول الطريق من جنوب إيطاليا حتى روما تم صلب ثلاثة آلاف من أتباعه. لكن المثير هو العثور على بقايا إنسان قديم جداً، ترك لنا للذكرى أمام كهف ميسليا بقايا من فكه العلوي ووجنته وثلاث أسنان، وحين تم تقدير العمر جاء الرقم 177 ألف سنة. وأمام هذا الرقم بدأ علماء الانثروبولوجيا يرسمون قدر الإنسان من جديد، فالمعلومات كانت حتى اليوم أن الإنسان تحرك من شرق أفريقيا قبل ستين ألف عام، وأمام الرقم الجديد بدأت رحلة الإنسان في البسيطة تأخذ منحى أقدم مما هو معروف، أي أن أجداد الإنسانية قرروا غزو الشرق الأوسط مبكراً أكثر مما هو معروف. ويميل الأنثروبولوجي البريطاني كريس سترنجر إلى مشاركة هذا الرأي، أي أن إنسان شرق أفريقيا اجتاز هذا الممر أكثر من مرة، وذلك عبر ثلاث هجرات تمتد أبعدها إلى 300 ألف سنة، وبينهما فترة 60 ألف سنة، والثانية بين 90 و120 ألف سنة، والثالثة حتى 180 ألف سنة. لكن كما يتساءل جان جاك هوبلين من معهد ماكس بلانك في لايبزيج: لماذا قرر الإنسان الضرب في الأرض، بل والدخول إلى المناطق التي يسيطر عليها إنسان آخر أكثر تكيفاً في الغرب (إنسان نياندرتال) وفي الشرق (إنسان دينيسوفا)؟ وللجواب على ذلك السؤال قام باحث من جامعة كولومبيا في نيويورك، هو بيتر دي مونيكال، ليوضح أن الأرض كانت مروجاً وأنهاراً، وحيوانات تسرح، وتماسيح تمرح، ودليله من كبسولة زمنية عجيبة، هي أسطوانة تم أخذها من قاع البحر المحاذي لعدن، عام 1965، وقراءة محتوياتها، إذ للترسبات ساعة زمنية بمعدل 6 سم لكل ألف عام، وهي تروي لنا قصة الرطوبة والجفاف في المنطقة. ومنطقة مثل «اينيدي» في تشاد تروي كهوفها القصة برسومات كما رأينا في فيلم «المريض الإنجليزي» (English Patient)، وقبل 6000 آلاف سنة كانت منطقة خضراء بهجة للناظرين. ويمضي العالم هوبلين لتفسير الظاهرة، بدراسة محتوى الجماجم وما طرأ عليها من تطور، حيث قام مع فريقه العلمي بدراسة مقارنة بين 20 من قحف إنسان قديم مع 89 مع جماجم بشر أمثالنا، ليخلص للقول بأن الدماغ، خاصة الفص الجداري والجبهي، قد تطور خلال آلاف السنوات ليصل الدماغ في النهاية إلى حجم 1350 سنتمتر مكعب، ليس هذا فقط بل تطور النورنات (الخلايا العصبية) مما هيأها للمغامرة الكبرى في اجتياز القارات. وهكذا فالنظرية الجديدة حول الجد الأنثروبولوجي للإنسانية، حسب هوبلين، ترى أن الدماغ تطور ليصل كماله قبل 35 ألف سنة فقط. وهي تقريباً الفترة ذاتها التي انقرض فيها إنسان نياندرتال وإنسان دينوسوفا. لقد عانى الإنسان الأول كثيراً، وكان يأكل الوحوش، والوحوش تأكله، وكانت أعداد الناس قليلة، قبل أن يضرب ضربته في الثورة الزراعية، فيتحرر من خوف الموت جوعاً، ليبني الحضارة، ويمضي طبقاً عن طبق عبر الثورة الصناعية والثقافية وعالم الديجتال.