جعل الله سبحانه وتعالى المستقبل بين عيني زايد، رحمه الله، عندما أمر بإنشاء جامعة العين، كنت يوم الإعلان عن هذا الفتح العلمي والصرح العظيم في إدارة البعثات وبين يدي أوراق الابتعاث والمسؤول يخيرني بين مصر والكويت، وكنت على وشك اختيار مصر لأنها كانت معروفة بالسبق العلمي في هذا المجال. إلا أن الإعلان قد غيّر مجرى حياتي بعد أن ألح عليَّ والداي من قبل ألا أذهب عنهما بعيداً، وكانت جامعة العين تكريب فرجة لهما وقُرة عين أبقت ابنهما بين الأحضان من جديد، وليس في البعيد. في العام 1977 وجه زايد، رحمه الله، بإرسال طلبة جامعة العين في فترة إجازة الصيف إلى شتى دول العالم ومن ضمنها «هولندا» التي كانت من اختياري، فخرجنا لأول مرة من قلب الصحراء إلى باطن الحضارة الغربية في أمستردام. هذه رؤية ولدت مع الفطرة السليمة لزايد، رحمه الله، والحكمة البليغة لأن في بريق عينيه شيئاً، لم نكن نحن «الصغار» في ذاك اليوم ندركه، حتى بُشِّرنا بالتخرج ودخلنا معمعة العمل الحكومي، ولا زلنا نمضي برؤية زايد، رحمه الله، حيث أراد لهذه الدولة التي جمعت العالم في قمتها السادسة للحكومات لاستشراف المستقبل الذي كان واضحاً لدى زايد، رحمه الله، منذ النشأة الأولى لهذه الدولة الفتية الآمنة المطمئنة بمشروعها المئوي، وفي عام زايد الخير الذي لم يغب، يواصل مسيرته ورثته في القيادة الرشيدة من «بوراشد» إلى «بوخالد» وكل من اقتدى بهما في ذات النهج والرؤية الواضحة. أعود إلى «هولندا» وقد زرنا صرح أكبر جامعة فيها تتقاطعها جسور الممرات من كل حدب وصوب، حتى وصلنا إلى مختبر السيارات الكهربائية التي وضعت بين يدي الطلبة لتطويرها وتلافي صعوباتها التي كانت تتمثل آنذاك في استنفاد بطارياتها بسرعة البرق والحاجة الكبيرة إلى محطات مثل مملكة النحل حتى تؤدي وظيفتها على أتم حال. وبعد أربعة عقود من تلك الإطلالة على مختبر صناعة السيارة الكهربائية، ها هي سيارات «تيسلا» تجوب شوارع الدولة الوارفة الظلال، من حسن الصدف أن يكون المعرض الخاصة بها بالقرب من داري. وأمام منصة إحدى براءات الاختراع الهولندية أيضاً وقفت مستفسراً عن ذاك الاختراع الذي خصص لقياس موجات التلوث في المدن الحديثة ومعرفة المخالف لشروط البيئة المستدامة وخصم مبلغ الغرامة بلا تأخير، هذا من إجمالي 200 براءة اختراع قام القيِّمون على حدث القمة باختيار سبع منها للعرض الحصري هنا في دولة المستقبل، فلولا رؤية المستقبل في أذهان المسؤولين في الحكومة الهولندية لكانت جزيرة بلعها البحر منذ عقود. المستقبل ليس حدثاً طارئاً، بل واقع ممتد بلا انقطاع، ففي متحف المستقبل قمت باختبار في غرفة اختيار وزراء المستقبل عبر الذكاء الاصطناعي الذي قام بتقدير أوجه صلاحيتي لمنصب الوزير، فكانت الدرجة النهائية مع الإجابة الافتراضية على الأسئلة المبرمجة لكل من يشغل هذا المنصب في المستقبل الأقرب ب80% وهو فأل طيب، لا خيّب فأل أبنائنا في ذاك المقام. براءة أخرى تتعلق بالمصابين بعمى الألوان، فقد تم توصيل مخ المصاب بشريحة إلكترونية توضح له درجة الألوان كلها صوتياً، فكل لون يصدر صوتاً معيناً يعينه على المضي في حياته كالأصحاء من بني جنسه. وثالثة قد أشرت إليها قبل عقد من الآن من وحي الخيال في ندوة خاصة عن التعريف ببطاقة الهوية في الدولة واستخداماتها النافعة للحاضر والمستقبل المتغير، فسألت المحاضر على سبيل الدعابة: لماذا لا نُحوِّل هذه البطاقة إلى شريحة إلكترونية دقيقة تزرع تحت الجلد بدل أن نحملها؟ وضربت مثالاً بمرتكبي الجرائم في الدول الغربية بعد إطلاق سراحهم عندما يقضون فترة المراقبة الإلكترونية لحين من الزمن، فالتقنية متشابهة وإن اختلفت الاستخدامات والأغراض، وقد مضى الأمر يومها بمزيد من الضحكات والابتسامات! ها أنا اليوم في متحف المستقبل الذي أصبح جزءاً لصيقاً وملازماً لقمة الحكومات بالدولة، أمرّ على المنصة الخاصة بالسويد وقد قدم المسؤول عنها شرحاً مختصراً عن اختراعها لشريحة إلكترونية بالكاد ترى بالعين المجردة وهي تؤدي دور بطاقة «نول» المستخدمة في هيئة طرق ومواصلات دبي، إلا أن هذه شريحة مزروعة تحت الجلد، وقد أطلعني على ذلك من تحت جلد يده ويقوم بتغييرها كل عشر سنوات، ما ضحكنا عليه بالأمس، أصبحنا بأمسّ الحاجة إلى مستقبل اليوم. أما الرابعة فهي من النرويج وهي تتعلق بمرحلة ما بعد السعادة المجتمعية إلى مرحلة الرفاه الاجتماعي، وقد صمموا برنامجاً إلكترونياً يقلل الوقت ويخفض التكاليف المادية لإيصال كافة الخدمات المجتمعية التي تجعل من السكان أكثر رفاهاً بعد أن ضمنت النرويج السعادة منذ عقود مضت، فغدت تاريخاً غابراً أمام هذا المستقبل الباهر. أما الخامسة وليست الأخيرة فهي خوذة إطفائي من أميركا يرى من خلالها الحرائق في الليلة الظلماء بأشعة الليزر الخضراء، سواء كانت بركاناً فائراً أو غابات حارقة أو منازل ثائرة بالحرائق، فهي منقذة الناس من الكوارث في أصعب الأوقات، قلت للشارح: هل جربتم هذا الاختراع؟ فرد أنه بنفسه يريد أن يكون الأول في استخدامه حتى لا يحرم الناس من السعادة في أصعب الظروف، فالمستقبل بذلك أسعد والناس في استقباله أرحب وأوسع صدراً، وهذه السحابة أثارت في ذاكرتي وضوح رؤية زايد، رحمه الله، قبل عقود، وامتدادها في وريثه في القيادة بذات الرؤية المئوية في مئويته، رحمه الله.