تتجه «دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي» من خلال نشاطها الدؤوب في عالم النشر وصناعة الكتاب نحو تشكيل نهضة فكريّة تتجاوز المحلي ـ الإماراتي إلى القومي ـ العربي من جهة، وإلى تكريس حضور على المستوى العالمي من خلال المشاركة والإسهام والحوار والترجمة من جهة ثانية، ويأتي ذلك كُلّه ضمن سياق شامل داخل دولة الإمارات العربية المتحدة، يُجسِّد دورها في حركة التنوير العربية الجديدة، ويكشف عن حاضر مثمرٍ، ومستقبل واعد، وقد أسهمت ـ ولا تزال ــ عناصر كثيرة في تحقيق أهدافها المرسومة، المتَّسقة مع استراتيجية عامة تحقق رؤية أبوظبي 2030. ومع هذا، فإن هناك عدة تساؤلات تُطرح محلياً وعربياً، من أهمها: هل النهضة الثقافية في الإمارات، وفي أبوظبي تحديداً، جزء من «ديكور» عام تفرضه طبيعة العمران وقوّة رأس المال أم أنها حركة فاعلة ومؤثرة حاضراً ومستقبلاً؟، وهل هي اليوم تستولي ـ ظاهراً أو باطناً ـ على مكانة الحواضر الثقافية العربية الأخرى التي سادت، ويبدو أنها بادت، أو على الأقل تراجعت نتيجة تأزم الأوضاع السياسية؟، وأنَّى لها أن تكون فاعلةً، وهي تطرح الثقافة ببعديها العربي والعالمي من منظور محلي، مع أنها تسعى لتكون شريكاً فاعلاً في الحضارة العالمية الراهنة، خاصة على المستوى الثقافي؟، وكيف لها أن تراهن على تغيير في الوطن العربي من خلال الثقافة، مع أن هذه الأخيرة لم تعد أولوية من الحُكَّام والمحكومين؟ إجابات الأسئلة السابقة وغيرها، نجدها صيغةً عمليَّةً ـ بعيدة كُليا عن التنظير ــ في تجربة إدارة البرامج التي هي من أهم الإدارات في قطاع دار الكتب بدائرة «الثقافة والسياحة» بأبوظبي، وتضم مشاريع تحققت على أرض الواقع، نتاج تراكم خبرات العقود الأربعة الماضية من عمر دولة الاتحاد، وقد أَثْرَت حركة النشر والتأليف والترجمة، الأمر الذي جعل قطاع دار الكتب قادراً على مواكبة حركة النمو والتطور في مجال النشر، ليصْبح منصَّة عالمية متطورة في صناعة الكتاب والثقافة من خلال نشر المؤلفات والدراسات والبحوث والترجمات. الواقع العملي يقول: إن المنتج المعرفي الخاص بدائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي ـ تأليفاً واختياراً ونشراً ـ يُزَيِّننا عربياًّ فكراً وطباعة، وخير مثال على ذلك مشروع«كلمة»، المختص بترجمة ونشر الكتب في مجمل التخصصات من جميع اللغات إلى العربية، وقد قارب ما ترْجمهُ بعد عشر سنوات من ظهوره، الألف كتاب، حتى أن هناك شبه إجماع من المثقفين العرب، ومن قادة فكر عالميين في مختلف التخصصات على أن مشروع «كلمة» تجربة ناجحة بكل المقاييس، وينطبق ذلك أيضاً على مختلف مشاريعها الفكرية الأخرى. من ناحية أخرى، فإن كُلَّ الدلائل والمعطيات والمؤشرات تُؤّكد على أن دائرة «الثّقافة والسّياحة» في أبوظبي، تُعَدّ إشراقة معرفية عربية في زمن التردّي والجهالة والظَّلام، وهي اليوم تجاوزت مرحلة التذكير بدور المؤسسات الثقافية في عدد من الدول العربية الفاعلة، بل إنها تقوم بدورها، وتضيف لها في انتظار عودتها، كما هي في: القاهرة، وبغداد، ودمشق، والكويت، وبيروت، والجزائر، وغيرها، حين كانت الثقافة مشروع دولة، سواء تعلَّق الأمر بتفعيل الجبهة الداخلية، أو بتعميق الانتماء العروبي، أو حتى بتحريك أو تحديد العلاقة مع الآخر أثناء مواجهة الاستعمار وعند تشكيل الدولة الوطنية، وأثناء اتّخاذ مواقف عربية جماعيّة، لو لم نعشها لما صدّقنا أنها وقعت بالفعل في ماضينا القريب، ولأن الدائرة تعيد التأكيد على أهمية الثقافة العربية في مشروعنا الحضاري، فإنه علينا أن نكون شركاء معها في تحمل عبء المواجهة الفكرية في ظل تراجع وغياب حواضر عربيَّة، وداعمين لها إعلاميّاً، لنبقى صامدين ثقافياً أمام العواصف والهزَّات الكبرى.