مجدداً، يقف قطاع غزة وحيداً إلى درجة كبيرة في وجه الحصار الإسرائيلي، الذي يتعامل مع القطاع باعتباره مجموعة من الناس تدير أمورهم حركة إرهابية! فإسرائيل، تواصل الضغط العسكري على حركة «حماس»، مع الاستمرار في تجاهل الواقع الاقتصادي الاجتماعي المتدهور في القطاع، وهو ما أثار قلق مختلف قيادات المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، التي نقلت صحيفة «هآرتس» تحذيرها من «انهيار اقتصادي حال تواصلت سياسة الإغلاق والحصار وعدم منح القطاع تسهيلات وإمداده بالكهرباء وكافة المستلزمات الخدماتية الحياتية والمعيشية»، كما أعربت عن «القلق إزاء تداعيات وعواقب الضغط العسكري المستمر دون منح تنازلات»، وختمت هذه القيادات بالقول: «اقتصاد قطاع غزة في حالة انهيار تام، مثل انخفاض من صفر إلى ناقص، ومعه حالة البنية التحتية المدنية. الوضع سيتدهور وقد تصل الأمور لمحاولة الآلاف اجتياز السياج الفاصل نحو إسرائيل، وهو سيناريو لا يمكن تجاوزه دون الوصول إلى التصعيد». «الكارثة» التي يمر به قطاع غزة تشبه حالة «الموت السريري» اقتصاديا واجتماعيا وبنيويا وبيئياً، والأمور تتجه لخطر انفجار غير قابل للسيطرة فالبطالة في ازدياد، والمشاكل الاجتماعية تتفاقم، والمصانع تتوقف، والحالة المالية تتراجع، والأمور تزيد بؤسا يوما بعد آخر. ومع كل هذا التدهور، جاء قرار الرئيس الأميركي (دونالد ترمب) بتقليص الدعم لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» عقاباً لموقف السلطة الفلسطينية الرافض قبول إملاءات واشنطن بشأن القدس. وقد كشفت ورقة حقائق أصدرتها الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني «حشد» حول «واقع التنمية الاقتصادية المحلية في قطاع غزة»، أن القطاع «يواجه العديد من التحديات والمشاكل التي تعيق القدرة على تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية»، حيث بينت أن «80% من سكان القطاع يعتمدون على المساعدات الدولية، وأكثر من 70% منهم يعانون من عدم وجود غذاء صحي أو آمن، فيما بلغت نسبة العاطلين عن العمل خلال الربع الثالث من عام 2017 نحو 243.800 عاطل عن العمل، بنحو 46.6%». وأكدت ورقة الحقائق أن «60% من المصانع وورشات العمل اضطرت لتقليص العمل أو الإغلاق منذ تطبيق الحصار، فيما تراجع معدل الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي من 17.6% ما قبل الحصار (2006) إلى 2.1% في عام 2015»، وإن 78% من العاملين يقعون ضمن فئة الموظفين بأجر بينما فقط 13.9% منهم يعملون لحسابهم الخاص، وهذا يشير إلى أن معظم فئات العمل الحر في قطاع غزة قد دخلوا حيز الفقر والاعتماد على المساعدات». الوضع في القطاع هو، فعلا، كارثي إذ يكاد يصل حد الانهيار، بل ويمكن اعتباره «منطقة منكوبة». وبحسب «أحمد الكرد»، رئيس «تجمع المؤسسات الخيرية في القطاع»، فإن «العديد من المرضى توفوا أمام نظر عائلاتهم بسبب عدم توفر العلاج داخل المستشفيات في غزة، أو السفر للخارج، خاصة وأن هناك 13.000 حالة إصابة بالسرطان، في ظل نفاد 230 صنفاً من الأدوية والمستلزمات الطبية من مستودعات الوزارة، وتعطل الأجهزة الطبية بسبب منع سلطات الاحتلال إدخال قطع الغيار للصيانة»، مضيفاً: إن «معبر رفح لم يعمل سوى 21 يوماً في عام 2017». لقد حذّر المنسق الأممي الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط (نيكولاي ميلادينوف) من مخاطر استمرار الأوضاع الإنسانية والأمنية المتدهورة في قطاع غزة، منتقداً تعنت إسرائيل في مسألة الحصار، وهو ما تناوله أيضاً بعض الكتاب والسياسيين وقادة الأمن الإسرائيليين. فبعض هؤلاء الأخيرين تحرك بدافع إنساني، وبعضهم اعتبره يؤثر سلباً على سمعة وأمن إسرائيل، والبعض الثالث اعتبره طريقاً لتشديد الضغوط على «حماس». وفي السياق ذاته، يقول الكاتب الإسرائيلي (عاموس هرئيل): «الأمراض المعدية لن تقف عند حاجز إيرز (بيت حانون)، وليس هناك أي تكنولوجيا يمكنها اكتشافها وتدميرها قبل اختراق الجدار في كرم أبو سالم، إذ هي تصيب أيضاً المواطنين الإسرائيليين. والسؤال هنا: هل ستعود (حماس) إلى استخدام السلاح ضد إسرائيل في حالة كهذه؟ لكن قبل ذلك ستواجه إسرائيل تحديات أكثر إلحاحا: كيف سيتم منع انتشار الأمراض في النقب؟ وماذا سيحدث حين تنهار المستشفيات في غزة؟ أو عندما تصبح شبكة المياه غير قادرة على العمل؟ وماذا سيفعلون إذا وقف جمهور واسع من الفلسطينيين على بوابات إسرائيل في الجدار وتوسلوا لتقوم إسرائيل بإنقاذهم من أزمة إنسانية بحجم لم نجربه حتى الآن؟». من جهته، قال المحلل (هارئيل ردا): «إن حجة إسرائيل ضد (حماس)، مثل الاستثمار المتواصل في إقامة العائق ضد الأنفاق واكتشاف أنفاق أخرى، لا يمكنها إلغاء النقاش حول خطر الكارثة الإنسانية المقتربة في القطاع. إن رد نتنياهو وليبرمان لن يقبله المجتمع الدولي». وإلى ذلك، حذّر الرئيس الإسرائيلي (رؤوفين ريفلين) من احتمال حدوث أزمة إنسانية في القطاع قريباً، لكنه هاجم بنفس الوقت «حماس»، متهماً إياها بالمسؤولية عن منع أي تحسن في أوضاع القطاع. وقال ريفلين: «اقتربت الساعة التي ستنهار فيها البنية التحتية في غزة لتترك وراءها الكثير من المواطنين في محنة، دون مرافق للصرف الصحي، مع تعرضهم لتلوث المياه الجوفية والأوبئة». بعد 11 عاماً من حصار إسرائيلي شامل، هو «جريمة حرب» مكتملة الأركان، يتضح أن بنية قطاع غزة الديموغرافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية ستكون بمثابة بركان جاهز للثوران. ومع تجذر أهلنا بالقطاع في أرضهم بقوة الانتماء وقوة الجغرافيا، من حقهم المقاومة بكل السبل المتاحة وهم –حقاً– يفعلون، غير أن الخوف كل الخوف أن يكون تشديد الحصار ضمن مخطط أوسع لدفع أهلنا بالقطاع للتعلق بأي خطة تطرح لاحقا في سياق «صفعة القرن» التي يروج لها ترامب.