يقاس التحضر الآن في كثير من البلدان بتعدد مدنها الحافلة بالمعمار المتميز، وأوجه النشاط الثقافي، وبروز شخصيات ثقافية واقتصادية عديدة تعبر عن تميزها بين المدن والعواصم داخل البلاد وخارجها، وهذا ما يحققه حضور مدن مثل تومبوكتو في مالي أو «إلورين» بين أهل «اليوروبا» في نيجيريا، وفاس في المغرب، أو كيب تاون في جنوب أفريقيا، فضلاً عن «ممباسا» في كينيا... وهكذا. وقد تعودت الثقافة العربية على نمط قديم في الوطن العربي، لم يكن يتصور الآخر إلا من باب الغرائب، حتى لو كان متميزاً في الطقوس الملكية أو الترويحية أو الروحية، وقد فوجئت في مرحلة ما من عمري الثقافي بوصف ابن بطوطة التبسيطي لمدينة «مللي»، أي عاصمة مملكة «مالي» أو اسمها القديم... وما لم تتخذ المدينة صفة التقديس فلا يكون لها عندنا قوة التقدير لتراثها الحضاري، أو مكانتها التاريخية في بلدها مثل مدينة فاس في المغرب أو «طوبى» في السنغال أو «كانو» و«سوكوتو» في نيجيريا. وقد كانت التجارة البينية بين العرب والأفارقة، سبباً قوياً لقرون طويلة -خلال ما يسمى بالعصور الوسطى- في تقاربات ومعرفة أعمق على رغم صعوبة المواصلات والطرق، ولكن ذلك كان بسبب قوة العلاقات «الداخلية»، من «سجلماسة» إلى أخواتها في الغرب والوسط الأفريقي، وأيضاً مثل علاقة مصر عبر طريق الأربعين في الصعيد والنيل، فضلاً عن علاقتها الثقافية القوية بمدن الغرب الأفريقي. أما بعد تحويل الاستعمار للطرق إلى الشمال فقد تحولت الرحلة الأفريقية والعربية معاً إلى الشمال الأوروبي عبر السواحل والموانئ الأفريقية التي لم يذكر أي منها في التاريخ السابق. وأشعر الآن بأن ثمة عودة لعزلة المدن التاريخية، بل والحديثة بقدر ما تتعقد مكونات التحديث وأساليبه، في التجارة والثقافة على حد سواء، فالتجارة في الألماس والمعادن الغنية تجعل الطيران ورجال الأعمال يتجهون إلى «كيفو» أو ستانلي في الكونغو، والاحتياجات العسكرية تجعل الآلة العسكرية الفرنسية والألمانية والصينية.. تتمركز في مدينة مثل جيبوتي وتتخذها مركزاً للتجمع والتنافس، وكذلك تصبح «سواكن» مقصداً، كما جعلتً السياحة في سيناء مركزاً منافسا للأقصر... وهكذا. ومركزية المدن الآن تفقد شيئاً من محوريتها، ولذا نجد نشاطاً ملحوظاً في بعض المدن لمحاولة بناء مكانتها أو استعادتها إن كانت تاريخية، فمهرجانات السينما والمسرح والموسيقا مثلاً أصبحت في بعض تلك المدن كمصادر جذب.. إلخ. أكتب ذلك وكنت سأفرد المقال لتطبيق كل هذه المعايير على مدينة «إلورين» ‏Ilorin?» ? وحدها ?وهي ?عاصمة ?ولاية «?كوارا» في ?غرب ?نيجيريا، ?وسابع ?مدينة ?في ?تلك البلاد، ?و?وريثة ?إمبراطورية «?أويو» (?اليوروبا) ?منذ ?منشئها ?في ?القرن ?الخامس ?عشر، ?واستمرارها ?كذلك ?قبل ?احتلال ?الشركة ?الملكية ?النيجيرية (?بريطانيا) ?لها?. ?ومسجدها ?التاريخي ?المبني ?في عام ?1820 ?يعتبر ?علامة ?إسلامية ?عالية ?القيمة، ?حتى ?تفرعت ?المساجد ?المهمة ?في (?12) ?إمارة ?داخل ?إطار «?إلورين» ?أشهر رموزها ?الأمير «?ذو ?القرنين ?جامباري» ?و?الأمير ?«جواندو»، ?وانتهت مؤخراً ?من ?بناء أحد ?أكبر ?المساجد ?في ?نيجيريا ?بمساعدات ?عربية ?متنوعة. ? كما ?أصبحت فيها ?إحدى ?الجامعات ?الكبرى ?ونخبة ?من ?المثقفين?. ?وكانت «?إلورين» ?قرية ?صغيرة ?في ?مملكة «?يوروبا» ?الكبيرة. ?وينطبق ?عليها النموذج ?كيف ?تتحول ?القرية ?إلى مقصد ?ديني ?كبير، ?ووجهة ?للعلماء ?المسلمين ?الكبار?، ?ومركز ?لترجمة ?الأعمال ?الشعبية ?والروائية ?إلى ?العربية ?والعكس، ?ومحاولة ?التنمية ?الثقافية ?عبر ?تنمية ?تراث ?اللهجات ?«اليوروبوية» ?قبل ?أن ?تأتي ?الإدارة ?البريطانية ?لتعقد ?مؤتمراً ?خاصاً ?في عام ?1875 ?لتقنين ?كتابة ?لغة «?اليوروبا» ?بالحرف ?اللاتيني، مدعية عدم معرفة «اليوروبا»، ?مثلما ?فعل ?الفرنسيون أيضاً ?في ?معظم ال?بلاد ?الفرانكفونية. وقد تم الرد الوطني على ذلك بنشاط كبير للكتابة بالعربية، أو تطوير كتابة «اليوروبا» بالحرف العربي، مما يسمى بـ«العجمي»: مثل كتب الشيخ «بدماصي» 1895، أو الشيخ «آدم إلورين»، وصدرت الصحف بالعربية، وترجم صديقنا الدكتور «مشهود جيمبا» إحدى أكبر ملاحمهم «الصياد الجريء في غابة العفاريت» إلى العربية، بل وترجم الفن الشعبي المسمى «واكا إلورين»، كفن أدبي إسلامي شعبي. لينتهي إلى دراسات أخرى أحدث بـ«اليوروبوية». وفي المجمل فمدينة «إلورين» هذه تعد إحدى أغنى المدن النيجيرية، لتسجل معنى تطور المدينة في الحياة الأفريقية.