إذا سلّمْنا بما ذكره الدكتور علي جمعة في حديث تلفزيوني، من «أن الإخوان، وقبلهم جمال الدّين الأفغاني، ومن سار على دربهم، قد أرادوا تأسيس الدولة قبل الأمة، وكانت النتيجة فشل مشاريعهم، وذلك على عكس رؤية محمد عبده ورشيد رضا، وغيرهما من دعاة الإصلاح في العالم الإسلامي، وهي رؤية، نجحت من وجهة نظره في تحقيق أهدافها».. فإننا نجد أنفسنا أمام السؤال الآتي: كيف وقع الخلاف إذن بين التيّارين الإسلامي والوطني، ما دام هدف قادة الحركات الوطنية المدنية والعسكرية كان، ولا يزال، هو إقامة دولة وطنية، مستقلة في سيادتها وإرادتها، في حين أن أدبيات الحركات الإسلامية تعمل من أجل قيام دولة الخلافة، التي تمر بالضرورة عبر الدولة الوطنية؟ المسألة هنا على الأقل بالنسبة لي لا تتعلق بالتنظير، فنحن العرب نُكوّن دُوَلاً، لكن في الوقت ذاته نحن أمّة، حتى لو تضاربت أو تناقضات مصالحنا المحلية مع أهدافنا المشتركة، لذلك فإن أيّ وقيعة مقصودة أو غير مقصودة بين الدولة والأمة هي محاولات مهلكة، ومنتجة للفتنة من جهات تابعة، أو دخيلة لا تعي من دورها الحضاري شيئاً، أو من أعدائنا، وليس شرطاً أن يكونوا من الخارج، ذلك لأن النفس أمَّارة بالسوء، وحين تجتمع عدة أنفس للقيام بالشر، بوعي أو من دونه، فإنها تشكل في النهاية جبهة تكبر مع السنوات، لتظهر اليوم على النحو الذي نراها عليه، حيث تَقْضي على النسل والحرث، وتُدمِّر العلاقات ومنظومة القيم، وتُدخل غالبية المجتمعات العربية حالاً من الجنون. نحن العرب اليوم أمة بالمعنى الوجودي، وبالمقاصد الثقافية، وبالدور الحضاري، وليس هذا من نافلة القول، ولكنه حقائق تتجلَّى في كل المواقف الشعبية والرسمية.. لا ننكر أننا في حال من الضّعف والهوان، وفي شتاء العمر بالنسبة للبشرية المعاصرة، التي تجاوزتنا بما تقدمه من منتج ثقافي وتقني، ولكن في تجارب محدودة من دول وأفراد لنا حضورنا الهادف، حيث إسهامنا المعترف به دولياً، وهو بداية مُشجِّعة علينا النظر إليها من زاوية إيجابية.. هنا يصبح العويل والبكاء والدعوة إلى التسليم بالواقع السيئ، دعوات مرفوضة من الذين أدركوا سبل الرشاد، ومنها: الخروج من ضيق المفاهيم، وصراع المصطلحات، ووثنية الأيديولوجيات، إلى رحابة الأفكار، وتعاون الرؤى، ووحدانية البدايات والنهايات الإيمانية. مهما يكن الصراع الدائر تنظيراً وممارسة، الذي توارثناه لأجيال متعاقبة، وتحديداً منذ خمسينيات القرن الماضي إلى الآن، فإن أفق الخروج من مأزق الإشكاليات المعرفية أصبح وشيكاً، ليس لظهور انكشاف على الذات، وعلى الآخرين، ولكن لانتشار وعي جماعي داخل كل الأقطار العربية حال دون استمرار اللغو أو التخلي عن المنجزات المكتسبة من الثورات ضد الاستعمار، وهذا قد يجمعنا من جديد نحو هدف واحد، ويجعلنا نتخطَّى الحواجز، ونسعى إلى المشترك بيننا، هنالك وهنالك فقط ستبدو المسافات قصيرة، وسماواتنا صافية، وأنفسنا راضية مطمئنة تتعلق بالجوزاء لتحقيق أهدافها. عملياً، غير مُجْدٍ النواح في مسائل الوجود، ومنها إن كان تقديم الدولة عن الأمة أو العكس، لأنهما يسيران معاً، ويقومان معاً، وينتهيان معاً، ومن يعتقد، نتيجة ضيق أفق التصور عنده، أنه ناجٍ كوْنه ركن إلى تحقيق الدولة على حساب الأمة، أو من يرى أن الحماية في التَّعلق بالأمة، وأَنْ لا حاجة إلى الوطن، فإنه يُسْكن نفسه وأهله ووطنه وأمته دار البوار.. ليَكف الجميع أيديهم، وليطّهروا قلوبهم، وليروا بالبصيرة أيّ حال نحن فيها اليوم نتيجة الخلاف بين ما هو انتماء للوطن، وما هو انتماء للأمة؟!