في نهاية المطاف صحّ الصحيح بانفكاك تحالف حيدر العبادي مع ميليشيات «الحشد الشعبي»، أيّاً تكن الدوافع التي دفعت هادي العامري وسواه من زعماء «الحشد» إلى مغادرة تحالف «نصر العراق» والعودة إلى تحالفهم المسمّى «الفتح المبين». فحتى خصوم العبادي استهجنوا، قبل مريديه، أن يغامر بصورة رجل الدولة، التي صنعها واكتسبها بعمله ونهجه طوال ثلاثة أعوام، فيضع يده في أيدي مَن لا يشكّ أحد في أنهم مقوقعون في نزعتهم الميليشياوية، المناقضة تماماً لمفهوم الدولة، والرافضة كليّاً وجود جيش وطني عابر للطوائف، والعاملة بدأب على اختراق المؤسسات وتطويعها لمصالحهم. وأيّاً يكن المآل الانتخابي للعبّادي، بعدما تركه الحشديّون، فإن سعيه إلى تعزيز تيار عراقي يؤمن بما يقوله ويعمله يبقى أفضل من أن يلطّخ سمعته بأن يكون جنباً إلى جنب مع مَن تلطّخت أيديهم بدماء أبرياء عراقيين وسوريين، ذاك أن «محاربة داعش»، كما خاضوها، لا تمنحهم صكوك براءة من جرائم وانتهاكات ارتكبوها. لا يتمتّع الحشديّون بالشعبية التي يدّعونها. لاشك أن بعض البيئات تتعاطف معهم، وقد تصوّت لمرشّحيهم، إلا أن ذلك لا يضمن لهم كتلة كبيرة وثابتة من الناخبين ما لم يعمدوا إلى الترهيب والضغط على الناس، وهو ما سيفعلونه في أي حال، ومع ذلك فإن وجودهم في المجلس النيابي المقبل لن يعكس القوة التي يعتقدونها لأنفسهم. إذ إنهم سيقتحمون مجالاً سبق أن حُسمت فيه الاصطفافات الكبرى بين التيارات الشيعية، وسيكون عليهم أن يأكلوا خصوصاً من حصص «حزب الدعوة» و«التيار الصدري» لينتزعوا لهم مكاناً في مشهد سياسي كان يتأثّر بهم ولا يحسبهم جزءاً منه، بل لا يعتبرهم مستحقّين إقحام أنفسهم فيه، فللسياسة مهمّة وللميليشيات مهمّة أخرى قد تكون داعمة للسياسيين من دون أن تقوم مقامهم، أو تكون أداة إيرانية لخلط الأوراق واللعب بالتوازنات السياسية. كان لابدّ من البحث عن اليد الإيرانية، تحديداً عن قاسم سليماني، في ارتسام تحالف العبادي- «الحشد»، ثم في فسخه. فالأهداف من فرضه كانت: أولاً، اختبار «إيرانية» رئيس الوزراء والتأثير في توجّهاته ومصادرة تمايزه ولجم انفتاحه على العرب. ثانياً، الحؤول دون التقارب الانتخابي بين العبادي ومقتدى الصدر وعمّار الحكيم. ثالثاً، استخدام وجود «الحشد» لتنفير الناخبين وضمان عدم حصول العبادي على نتيجة حاسمة لبقائه في منصبه من جهة، وضمان عدم تماسك كتلته في مجلس النواب وربما تفكّكها لاحقاً فتبقى كتلة «ائتلاف دولة القانون» بقيادة نوري المالكي الرقم الصعب في إدارة عمل البرلمان والتحكّم بعمل الحكومة. ولكن إعلان الحكيم، زعيم «تيار الحكمة»، انضمامه لتحالف «نصر العراق» من دون ممانعة من العبادي، ما لبث أن أعاد الأمور إلى نصابها. وبعدما هاجم الصدر بشدّة تحالف العبادي- «الحشد» واستهجنه فريق كبير من السُّنة، فإن خروج الحشديين أعاد لرئيس الوزراء احتمالات التعاون والتنسيق الانتخابيين مع الصدريين ومع فئات أخرى، ما يمكّنه فعلاً من القول بأن تياره سيكون عابراً للطوائف. من المؤكّد أن حركة التحالفات على الجانب الشيعي عبّرت مجدّداً عن وجود معضلة في نهج «حزب الدعوة»، قد تكون في تبعيته الخالصة للولي الفقيه وخضوعه للعقل السياسي الإيراني، وقد تكون أيضاً ذاتية في العقل السياسي الذي يديره. فبمعزلٍ عما إذا كان وجود نوري المالكي على رأس الحزب ونائباً لرئيس الجمهورية قراراً إيرانياً، أو حزبياً مستقلاً، أو انعكاساً لقوّة رئيس الوزراء السابق وشبكة المصالح التي نسجها بالفساد والإفساد، إلا أن إصراره على العودة إلى منصبه السابق لا يعني سوى أن «حزب الدعوة» نفسه والإيرانيين لا يعترفون بفشله الفادح الذي جلب «داعش» للسيطرة على ثلثي العراق، وبالتالي لم يستوعبوا دروس «الحرب على داعش»، إلا إذا كان هدفهم غير المعلن مواصلة إفقار العراق وإضعاف الدولة والجيش الوطني، واستطراداً إحباط مسعى العبادي إلى استثمار «النصر» وترجمته تعزيزاً للدولة والمؤسسات ومصالحةً بين مختلف مكوّنات المجتمع وإنهاضاً للاقتصاد المتهالك. بدهي أن الإصرار على الانتخابات المقبلة في موعدها في شهر مايو استحقاق دستوري يجب احترامه، ولعل أسوأ ما اتسم به النقاش في شأن إجرائها أو تأجيلها أنه يدور حول أجندات خفية تتعلّق بالتنافس الشيعي على رئيس الوزراء المقبل. المؤسف أن هذا النقاش لم يقارب اعتراضات المكوّن السُّني بجدّية ولا بحلول دستورية، إذ إن ظروف مناطق سُنية واسعة ليست مناسبة لممارسة الاستحقاق، كما أن أوضاع مئات الآلاف من النازحين لا تتيح لهم أيضاً مشاركة طبيعية فيه.