المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل ليست في أحسن حالاتها اليوم. البعض يقول إن انتخابها لعهد رابع قد يكون خاتمة حياتها السياسية. البعض الآخر يقول ما هو أكثر مدعاة للتشاؤم: إنها لن تحكم هذه المرة وهي مضطرة إلى التنحي، ومن ثم إلى الدعوة لانتخابات عامة جديدة وغامضة النتائج. القصة تبدأ مع الانتخابات الأخيرة في سبتمبر الماضي. حزبها الديمقراطي المسيحي فاز بالعدد الأكبر من الأصوات. هذا صحيح. لكنه خسر كثيراً من الأصوات، وبالتالي المقاعد التي كان يسيطر عليها في البرلمان السابق، والتي كسب معظمها الحزب الجديد، العنصري واليميني المتطرف والمناهض للمسلمين، «البديل لأجل ألمانيا». ما حل بالمسيحيين الديمقراطيين حل في الوقت عينه بالحزب الاشتراكي الديمقراطي، الحليف والمنافس في وقت واحد. فهو أيضاً خسر أصواتاً ومقاعد عدة، وقد فُسرت خسارته بأنها الثمن الذي دفعه للائتلاف مع المسيحيين الديمقراطيين، والذي حُكمت بموجبه ألمانيا منذ 2013. مارتن شولتز، القائد الجديد للاشتراكيين الديمقراطيين، كان مع هذا الرأي، ولهذا بدا شديد الرفض لإعادة العمل ب«الائتلاف الكبير» مع الحزب المسيحي الديمقراطي ومع ميركل. المستشارة، التي جعلتها سياستها الإيجابية حيال الهجرة واللجوء تعاني المشاكل حتى داخل حزبها وائتلافها مع الاتحاد المسيحي الديمقراطي البافاري، جربت حلاً آخر: إنه الائتلاف مع الحزبين الصغيرين، الليبراليّ والخضر البيئويين. فبهذا تؤمّن الأكثرية التي يحجبها امتناع الاشتراكيين الديمقراطيين عن مشاركتها في ائتلاف حاكم. شهور عديدة مضت في التفاوض بين الأحزاب الثلاثة، لكن التجربة انتهت إلى فشل معلن. ذاك أن التوفيق بين التوجه النيو ليبرالي للحزب الليبرالي وبين التوجه التدخلي للخضر بدا مهمة مستحيلة. هكذا عادت ميركل إلى المربع الأول، أي إلى التفاوض مع شولتز والاشتراكيين الديمقراطيين. وفي النهاية أمكن تذليل المصاعب والاتفاق على تسوية تطال الجوانب الاقتصادية ومسائل الهجرة وباقي السياسات. فشولتز، رغم رفضه السابق للائتلاف، غلّب حرصه على تجنب الفراغ الحكومي الذي قد يعطي اليمين المتطرف فرصة الفوضى التي يشتهيها للتظاهر بملء الفراغ. لكن الحزبين ليسا منسجمين في موقفهما هذا: فالمتحفظون داخل المسيحيين الديمقراطيين على التحالف مع «اليسار» الاشتراكي الديمقراطي يعادلون المتحفظين داخل الاشتراكيين الديمقراطيين على التحالف مع «اليمين» المسيحي الديمقراطي. هكذا يبقى هناك احتمال ماثل مفاده أن ينهار مشروع الائتلاف الجديد بسب معارضة القواعد الحزبية المختلفة له. لكنْ حتى لو لم يحصل هذا، وتمكن الحزبان من تجاوز التحديات وتشكيل ائتلاف جديد، فهل يعني ذلك أن الطريق باتت معبّدة أمام المستشارة ميركل؟ أغلب الظن أنْ لا. فهذا الائتلاف الموصوف ب«الكبير» هو في نظر كثير من المراقبين «صغير» وضعيف. أما السبب فهو أن حزبي الائتلاف تراجع تمثيلهما كثيراً في الانتخابات الأخيرة. وما يعنيه هذا أن المعالجة بالحزبين «القديمين» لا تكفي في مواجهة حدث جديد وطارئ هو الصعود الشعبوي في أوروبا، الممثل في ألمانيا ب«حزب البديل». وثمة عوامل خارجية ليس متوقعاً أن تساعد ميركل. فأولاً، هناك الدينامية التي يبديها الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون وكأنه يعمل على انتزاع الزعامة الأوروبية من ألمانيا، في ظل التحالف معها. لقد جاء انتخاب ماكرون إبان الانشغال الألماني بالانتخابات وتشكيل الحكومة بعد التوصل إلى بناء ائتلاف حكومي. وهذه الفرصة هي ما لا ينوي الرئيس الفرنسي تفويته رغم الاتفاق مع ميركل وشولتز في نزعتهما الأوروبية الصافية. أهم من ذلك يبقى الوقوع بين «حليف» لا يؤتمن كثيراً للتحالف معه، هو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبين خصم لا يتردد في استعمال كافة أدوات الخصومة، المقبول منها وغير المقبول، وهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وسط علامات الاستفهام الكثيرة هذه، تتحرك ميركل اليوم. ----------------------- *محلل سياسي- لندن