كان من المثير للانتباه ألا تكون بكين هي المحطة الأولى لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين، بل حطّ في مدينة «شيان» Xian ذات الشهرة التراثية، فضلاً عن الدور التجاري التاريخي الذي لعبته عندما كانت تشكل البوابة الصينية لطريق الحرير. ولا شك في أن الرئيس الفرنسي كان يلمح بذلك إلى إعجابه بتمسك الصينيين بماضيهم. وقال ماكرون، خلال مؤتمر صحفي بعد وصوله مدينة شيان: «إن علاقتنا راسخة عبر الزمن. وفي رأيي، أنها مبنية على أساس حضاري، وبالرغم من أن فرنسا والصين دولتان بثقافتين متباعدتين بشكل كبير، إلا أنهما تشتركان في مواقفهما». وأضاف ماكرون: «وكان بلدانا دائماً يحرصان على الالتقاء واحترام بعضهما بعضاً على الرغم من بعد المسافات. وهذه الأسباب هي التي دفعتني لبدء زيارتي من مدينة شيان. وهي الطريقة التي اخترتها للاطلاع على أهمية الصين القديمة». وبمناسبة هذه الزيارة، حرص ماكرون على تكريس سياسة اليد الممدودة لبكين، وأضاف قائلاً: «إن الذي جئت لأقوله لكم هو أن أوروبا عادت إلى الساحة». وهي إشارة تتقاطع مع التوجّه القومي للرئيس دونالد ترامب عندما قال عبارته «أميركا أولاً»، لكنها تتطابق من جهة ثانية مع الانفتاح الصيني على الغرب. وفي المقابل، فقد شدّد الرئيس الصيني «تشي جينبينج» على رغبته في حماية الشراكات متعددة الأطراف وتكريس الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي. وينطوي طرح «جينبينج» على أفضل توضيح لمدى التغير الذي شهدته الصين. وخلال عقود عدة مضت، ظلّ الحزب الشيوعي الصيني الحاكم يعبر عن تذمّره من «قرن المذلّة» الذي تحملت الصين بعض أعبائه والذي تسببت فيه القوى الاستعمارية الأوروبية منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين. ودفعت سياسات البلطجة الاستعمارية، وما رافقها من محاولات لإخضاع وإذلال الشعوب، إلى تعميق مشاعر الصينيين بضرورة التمسك بثقافتهم القومية. إلا أنه سرعان ما استبدلت هذه المشاعر بخطاب وطني أكثر ميلاً للواقعية ومبني على أساس الريادة التاريخية للصين في العالم المعاصر. وفي الوقت الحالي، تستهدف الصين رفع ناتجها المحلي الإجمالي، بحيث يتجاوز نظيره الأميركي قبل نهاية العقد المقبل، وتعتقد الصين أن طموحاتها الاقتصادية الواسعة والتي لا تكاد تحدها حدود، يمكن أن تتضح من خلال مشاريعها الاقتصادية العملاقة الجديدة، ومنها مبادرة «حزام واحد، طريق واحد» التي تهدف لتطوير البنى التحتية على طول وعرض منطقة أوراسيا (البلدان التي تقع بين أوروبا وآسيا)، والتي تهدف من ورائها إلى تكريس دور بكين كقوة تجارية رائدة في العالم الآسيوي. وكتب «إيد وونج»، الرئيس السابق لمكتب بكين في جريدة «نيويورك تايمز» يقول: «من بين الدول التي سادت العالم في القرن التاسع عشر، كانت الصين الدولة الوحيدة التي تمكنت من إعادة إحياء أمجاد إمبراطوريتها. والآن، أصبح الحزب الشيوعي الصيني يبسط سلطانه على منطقة سبق لقادة عرق المانشو في عهد أسرة كينج أن بسطوا سيطرتهم عليها عن طريق الحرب والحنكة الدبلوماسية». ويضيف وونج: «ويمكن لهذا النفوذ أن يتسع أكثر من ذلك، إذ بدأت الصين في الوقت الحالي تستخدم قوتها العسكرية لجسّ نبض القوى الغربية والآسيوية حول قدرتها على الدفاع عن المناطق الحدودية البرية والبحرية المتنازع عليها والتي تمتد من بحر الصين الجنوبي حتى تخوم جبال الهيمالايا. ويحدث ذلك بالتزامن مع حرصها على شحذ وترسيخ المشاعر القومية عند مواطنيها». ويرى منتقدو الصين أن المزاعم التي تعلنها حول حقها في التدخل ببلدان ومناطق تنتشر على مساحات واسعة من البحار والمناطق الجيوسياسية التي تمتد حتى أفريقيا وأميركا الوسطى، إنما هي عملية استعراض عضلات لدولة توسعية صاعدة. وحتى الرئيس ماكرون، نجد أنه طالب بكين، وهو ضيف عليها، بأن تكون عادلة في طريقة ممارستها لريادتها أثناء تنفيذها لمشروع طريق الحرير الجديد للقرن الحادي والعشرين. وقال في تصريح أدلى به هذا الأسبوع: «لا يمكن لهذا الطريق أن يمثل وجهاً جديداً للسيطرة والتي يمكن أن تحول البلدان التي تعبرها إلى شعوب موضع نفوذ أجنبي صيني». وقد لا يوجد على سطح الكرة الأرضية مفكر عاقل واحد يمكنه أن يقتنع بأن الصين سوف تتفوق على الولايات المتحدة كقوة رائدة عالمياً. إلا أن السرعة المشهودة لصعود الصين أصبحت مثار اهتمام كبير ولافت للنظر. ويرى بعض الباحثين المتابعين أن ذلك يعود للتراجع الكبير للنفوذ الأميركي في العالم، والذي تحدث عنه الرئيس ترامب في أكثر من مناسبة. وهو الذي بادر إلى إلغاء مشاريع التكامل الاقتصادي مع دول آسيا، وهي مشاريع كانت جزءاً من اتفاق التجارية الذي اعتمده الرئيس أوباما من خلال تبني سياسة التقارب مع الصين بناءً على أجندات سياسية واقتصادية وتجارية غير مترابطة ولا يمكن قبولها. وقال رئيس الوزراء الأسترالي السابق كيفن رود في مقال نشره الشهر الماضي: «مع تثبيت الصين لنفوذها الاقتصادي في بلدان منطقة آسيا والهادئ الواسعة، فإن تلك البلدان تشعر بأن الولايات المتحدة أصبحت تعاني حالة من العزلة الاقتصادية في آسيا». ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»