يخيل لمن يقرأ «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» لعام 2018 أنه أمام دولة شارفت على الانهيار، وعليها اتخاذ إجراءات مصيرية لإنقاذ نفسها! فالاستراتيجية، على نحو مبالغ فيه، تحذر من «تآكل الصناعة الأميركية خلال العقدين القادمين، وتشير صراحة إلى الاعتقاد بأن «التفوق العسكري الهائل مطلوب لمنع نجاح العدو وضمان أن لا يكون أبناء وبنات أميركا في معركة غير متكافئة». وإن كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عهد إدارة الرئيس رونالد ريغان دأبت على إصدار الاستراتيجية -التي هي في الأصل غير ملزمة للكونجرس- بهدف ضمان التفوق الأميركي في الميادين كافة العسكرية والاقتصادية والتقنية والمدنية وغيرها، وإضعاف قدرة الخصوم المحتملين على المنافسة والتهديد، فإنها اليوم تعبر بصورة أوضح عن نهج الرئيس دونالد ترامب الذي يثير، للعالم أجمع، منذ وصوله إلى البيت الأبيض، بعض التساؤلات غير المعهودة في السياسة الأميركية، من نوع تركيزها، مثلاً، على ترسيخ عولمة أميركية أحادية القطب. وبحسب صحيفة «الجارديان» البريطانية، فإن الاستراتيجية الأميركية الجديدة هي «محاولة لتجميع آراء وتصريحات الرئيس ترامب عن الأحداث الجارية في العالم، بالإضافة إلى حكم من يجاورونه في السُلطة، فظهرت لنا ورقة هي أقرب إلى الخداع لهذه الإدارة غير المنتظمة، والتي تحاول بناء إطار لاتخاذ القرارات الخطيرة». إن من أهم ما قدمه الرئيس «ترامب» في استراتيجيته إعلانه عن الأولويات الأميركية الحقيقية، وبالتالي، في الشق الخاص بالشرق الأوسط تحديداً، جاءت قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ذيل هذه الأولويات. ورغم أن الاستراتيجية تقوم على أربعة محاور رئيسة تستند إلى: حماية الوطن، وتعزيز الرخاء الأميركي، والحفاظ على السلام العالمي، وتعزيز الدور الأميركي على الساحة الدولية.. إلا أن الحديث عن الاستراتيجية تصدر الإعلام في إسرائيل بسبب جملة واحدة في هذه الاستراتيجية التي جاءت في 68 صفحة: «على مدار عقود، كان الحديث عن أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني هو المحور الأساسي الذي منع تحقيق السلام في المنطقة، لكن اليوم يتضح أن التطرف الإرهابي الإسلامي الآتي من إيران قادنا لندرك أن إسرائيل ليست مصدراً للصراع في الشرق الأوسط، وأن دولاً أظهرت إمكانات التعاون المشترك مع إسرائيل لمواجهة التهديدات الإيرانية». وفي ذلك، يقول «افرايم غانور»، الكاتب الإسرائيلي في صحيفة «معاريف»: «إن أهمية الاستراتيجية التي عرضها الرئيس ترامب تحت عنوان (إسرائيل ليست مسؤولة عن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط)، أكبر من تصريح الرئيس بالاعتراف بالقدس كعاصمة إسرائيل». صحيح أن دبلوماسيين وخبراء أميركيين في شؤون المنطقة توقعوا أن لا يكون لاستراتيجية ترامب تأثير كبير من الناحية العملية، فهي «لا تمت للواقع بصلة، وغير مصممة للتعامل مع الجزيئيات»، كما يرى المفاوض السابق للسلام في الشرق الأوسط في عدد من الإدارات الأميركية «آرون ديفيد ميلر». غير أن الكاتب الإسرائيلي في صحيفة «الانديبندنت» البريطانية «زيف شافتس»، كتب يقول: «بالإضافة إلى إعلانه أن القدس عاصمة لإسرائيل، فإن ترامب قد صفع الواقعية الموجودة في عالم السياسة الخارجية الأميركية، فهو يدرك أنه لا يوجد عالم عربي يعمل من أجل العدالة، بل هي منطقة من دول ذات سيادة تسعى إلى تحقيق ما تعتبره مصلحتها الذاتية، وكما تقول الاستراتيجية الجديدة، فإن الدول العربية تجد مصالح مشتركة مع إسرائيل، على نحو متزايد، في مواجهة التهديدات المشتركة»! وعن ذلك أيضاً عبّر مقال مشترك كتبه «عاموس يادلين» مدير معهد دراسات الأمن القومي، مع «أفنر غولوب» الزميل الباحث في المعهد، حيث يستخلصان الآتي: «مع هكذا وثيقة ثمة حاجة إلى إجراء حوار وثيق ودائم بين إسرائيل والولايات المتحدة، هدفه بلورة استراتيجية أميركية إسرائيلية منسقة ضد إيران، تضمن تحقيق المبادئ التي تضمنتها الوثيقة الأميركية، مع المحافظة على المصالح الإسرائيلية. وعليه، من المتوقع أن يجري حوار مشترك فيما يتعلق بالسياسة التي يجب انتهاجها في ضوء مبادئ الوثيقة، وخصوصاً على المستوى الاستراتيجي العسكري. معنى هذا أنه سيكون لإسرائيل في الفترة المقبلة تأثير في بلورة السياسة الأميركية عملياً». إن الخطير في «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» الراهنة هو تفكيك ما يشار إليه منذ عام 1967 بـ«نظرية الربط» بين الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. وعليه نسأل: هل حقا لدى الرئيس ترامب الرغبة في طرح «صفقة» تتعلق بحل القضية الفلسطينية، القضية الأهم شرق أوسطياً، والتي غيبها من استراتيجيته للأمن القومي الأميركي؟! إن هذه الاستراتيجية هي في حقيقتها محاولة ترويج لعدم أهمية القضية الفلسطينية، وللقول بأنه على الفلسطينيين الاستسلام للأمر الواقع، فيما إسرائيل دولة طبيعية يجب دمجها بالمنطقة للمساعدة في حل المشاكل الأمنية، مع تجاهل ما تقوم به في توسيع رقعة الاستيطان على امتداد الوطن التاريخي الفلسطيني!