لمعرفة الهويّة الإعلاميَّة للمجتمعات العربية، لابدَّ لنا من متابعة المشهد الإعلامي في دولنا وستكون المتابعة هنا بدرجةٍ نسبيةٍ لأنها ستساعدنا على إبداء ملحوظات، وليس تقديم حكم قاطع، وقد تُسٍهِم في فهم ذلك المشهد، وإعطاء تفسيرات لتأثيره في الرأي العام لجهة تعميم الوعي أو الترويج للزيف، وما يبدو لنا جلياًّ في الوقت الراهن، هو تكدّس إعلامي لقنوات كثيرة ومتنوعة تتحدث بعض الإحصائيات والدراسات عن أن عدد القنوات الفضائية بلغ 1320 قناة في نهاية سنة 2013، موجهة إلى المنطقة العربية. وفي ظل ذلك التكدّس الإعلامي لقنوات فضائية تُلْهِي المُشاهد العربي بنقاش يأخذ في الغالب طابع الجدل من غير ذوي الاختصاص، أو من أفراد محللين وخبراء غير معترف بهم في المجال العلمي أو في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، ودخلاء في عوالم السياسة، وتقوم شرعية وجودهم على مميزات ذاتية تعترف بها وسائل الإعلام دون غيرها، من ذلك مثلاً:علوّ الصوت(بحجة أو من دونها)، والقدرة على الثبات حتى لو كان ما يقدّم باطلا، والتحيّز لرأي وسياسة القناة، والاستعداد الدائم للحضور والمشارك، والعلاقة الدائمة مع المُعدّين والمُقدمين. وتلك المميزات إن عدّت كذلك مُجتمعةً أو مُتفرقةً لم تترك لذوي الاختصاص وأهل الدراية والحكمة والعقلانية مجالاً للمشاركة، ومن جاءته الفرصة منهم أو سعى لها سعيها، ليس في مقدوره التأثير في الرأي العام إلا في حدودٍ ضيقةٍ، لا لأن الزمن المتاح له قليل، أو لكون أمثاله من المحللين الموزعين هنا وهناك عبر برامج الفضائيات قلّة، وإنما لسبب خطير، ومقلق بالنظر إلى تأثيراته المستقبلية، ويتعلق بلغة الخطاب السائدة في الإعلام، تلك اللغة التي شوّهت معاني السلطة والحرية ومنظومة القيم، وأثّرت سلباً في نمط العلاقات داخل المجتمعات العربية، وزادت من مخاوفها. وبالنسبة لمسألة تكدس القنوات، والتي تُسهم أحياناً عن غير قصد في ضبايية الرأي العام، وزيادة الظمأ إلى الحرية، والجوع على رغم من توافر الخيرات والنعم، والخوف في ظل غياب مطلق للأمان المجتمعي والوطني والقومي، فهي ليست ذات فعل تراكمي نوعي، وإنما لكثرتها وتشابه برامجها إلى درجة التطابق أصبحت تعاني الكساد بالمعنى التجاري للكلمة، وإن علت نسبة المشاهدة في هذا البلد العربي أو ذاك، أي أنها لا تغنيه في أي مجالات الحياة المادية والمعنوية والمعرفية، وما نراه من إقبال من طرف المشاهدين تتحكم فيه عوامل ثلاثة، هي: التدافع والمكوث في البرامج، تحقيق حاجات القنوات الفضائية لساعات متواصلة من البث، وجذب المشاهدين نحو خبراء، من منظور النجومية الجديدة الآخذة في التشكل. من ناحية أخرى فإن تكدس الفضائيات زاد من معاناة المشاهد العربي، لأن تلك القنوات تأخذ من حياته بما فيها هروبه من الأوجاع والألم، وبحثه عن الراحة والمتعة، ولا تعطيه إلا القليل من الفائدة، ويظهر ذلك بوجه خاص في البرامج الدينية البعيدة عن الطائفية المشاهد العربي اليوم، تؤرقه برامج مقلدة أو من منجزات مجتمعات أخرى، (انظر إلى كلٍ من: البرامج الحوارية، برامج المسابقات، برامج المنوعات بكل أنواعها، بعض البرامج الفنية.. الخ).. هنا تبدو حالة العجز العربي ظاهرةً ومكشوفةً، ويتعذر معها الحديث عن هويةٍ عربيةٍ شاملةٍ، يلملم أصحابها أشتات ذاكرةٍ عربيةٍ جامعةٍ للإعلام. * كاتب وصحفي جزائري