السياسات الاقتصادية.. بين النمو والمساواة
من بين أهم الأمور التي حدثت في عام 2017 هو استمرار تراجع معدلات الفقر العالمية. وفي الواقع، شهد العام الماضي، أدنى معدلات الفقر المسجلة. وخلال العقود الخمسة الماضية، هبطت معدلات الفقر العالمية، وساعد على تحقيق ذلك الإنجاز الكبير انتشار «نظام الاقتصاد الحر» ونمو الاقتصادات في العالم النامي.
ومن المفيد والمحفز أن نفكر في الاتجاهات الاقتصادية على مدار نصف قرن، كالتفكير في معدلات الفقر، وإن كانت المناقشات السياسية تميل إلى التركيز بصورة مكثفة على الأمور المرجّح حدوثها خلال الشهر أو العام المقبلين. وذلك أمر طبيعي تماماً، لكنه يجعل من السهل تماماً تفويت أمور ذات أهمية حقيقية.
وفي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، يدور كثير من نقاشات السياسات الاقتصادية حول المفاضلة بين تعزيز المساواة في المجتمع وزيادة معدلات النمو الاقتصادي. وكلما اتسع الأفق، فاز خيار زيادة النمو في المنافسة، ذلك أن زيادة النمو الاقتصادي على المدى الطويل، ولو في نطاق نقطة مئوية واحدة، ستكون لها آثار إيجابية كبيرة على مستويات معيشة أحفادنا.
وبالطبع، لا أقصد أنه لا ينبغي على الولايات المتحدة محاولة رفع مستويات دخل الطبقة العاملة، كما أن شبكة الأمان القوية لها أهمية كبيرة، مثل البرامج الحكومية الحكيمة التي توفّر سبلاً قصيرة للفرص أمام أفراد المجتمع.
بيد أن التركيز على المدى القصير من شأنه أن يفضي إلى تفكير منقوص بشأن كيفية مواجهة التباين في الدخل، كما أن رفع الضرائب على الأثرياء وإعادة توزيع الثروات من شأنه أن يُقلّص التباين في الدخل لفترة محدودة، في حين أن الحل الأمثل الذي يجدي على المدى الطويل هو تعزيز المهارات والخصائص الإنتاجية الأخرى بين العمال، والتي تكافئها سوق العمل بأجور أعلى.
ويقضي المحللون كثيراً من الوقت في التساؤل بشأن ما إذا كانت هذه السياسة أو تلك ستؤثر على معدلات النمو الاقتصادي خلال ربع العام المقبل، ولكن على المدى الطويل، لا شك في أن أهم محفزات النمو هي الإنتاجية.
ومن الجدير بالاهتمام التفكير بشأن الإصلاح الضريبي «الجمهوري» الذي وقّعه ترامب خلال الأيام الأخيرة من العام المنقضي. وزعم المعارضون أن الشركات لا تحتاج إلى التخفيضات الضريبية التي أقرّها القانون الجديد لأنها ببساطة تقبع على تلال من النقود في ظل بيئة أسعار الفائدة المتدنية. وهؤلاء لم يدركوا المقصود، فالمهم هو أن تحفيز الشركات على الاستثمار من شأنه زيادة الإنتاجية، ومعها الأجور، خلال العقود المقبلة، وليس على مدار الأشهر أو الفصول التالية.
وثمة نقاش محتدم بشأن سبب تراجع معدلات التوظيف بين الرجال في سنوات ذروة العمل من 25 إلى 54 عاماً، وسط تساؤلات مثل: هل شبكة الأمان الاجتماعي سخية بدرجة تمنح هؤلاء الرجال سبل مساعدة من دون عمل؟ أم أن العولمة والتغيير التكنولوجي سببا ضغوطاً أفضت إلى تراجع الأجور، ومن ثم أخرجت البعض من القوة العاملة؟ أم أن الأمر يرجع إلى عوامل مؤسساتية مثل تراجع الاتحادات العمالية، وانخفاض الحد الأدنى للأجور؟ ورغم أن كثيراً من تلك التفسيرات بها جوانب صحيحة، لكن تراجع معدلات التوظيف بين هذه الفئة العمرية حدث قبل زيادة وتيرة العولمة في تسعينيات القرن الماضي، والطفرة التكنولوجية الحديثة، وعندما كانت الاتحادات قوية، وفي وقت كان التأمين الصحي في حالة العجز صعب المنال. وهو ما يؤكد أننا لا نفكر في كثير من الأحيان بشأن تراجع معدلات التوظيف باعتبارها تحد قديم عمره سبعة عقود.. وإن كانت تلك هي الحقيقة.
لذا، عندما تضع الإدارة الراهنة رؤى ذات آثار على المدى الطويل، فإن ذلك يذكرني بأن المؤسسات الأميركية، التي أرسيت قواعدها منذ عقود طويلة، اعتادت على تحمل الصعوبات ومواجهتها.
مايكل سترين: مدير قسم دراسات السياسة الاقتصادية وباحث مقيم لدى معهد «أميركان إنتربرايز»
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»