بعد القضاء على دويلة «داعش» وعودة عناصرها الذين يحملون جنسيات أوروبية إلى بلدانهم، ترتفع في أوروبا علامة استفهام كبيرة حول أسباب تخلي شباب من المسلمين الأوروبيين عن دولهم ومجتمعاتهم الجديدة وانضمامهم إلى حركة إرهابية مثل «داعش» رغم ما تتمتع به هذه المجتمعات من حريات وما توفره من فرص مفتوحة للتقدم في مجالات العلم والعمل. وقد أدت محاولات الإجابة على علامة الاستفهام هذه إلى وضع دراسات في الاجتماع السياسي، تجاوزت الشبان المسلمين الأوروبيين، لتتناول المجتمعات الأوروبية المعاصرة، بشكل أكثر تحديداً. وتلتقي هذه الدراسات حول الاعتراف بوجود أو بتكوّن أربع قوى حديثة تعيد صياغة المجتمعات المعاصرة، وهي: أولاً: الهجرات الكونية. فقد أدت هذه الهجرات إلى ظهور تعددية ديموغرافية لا سابق لها، في كل دولة وفي كل مجتمع. إلا أنه لم تترافق مع هذه الهجرات ثقافة احترام التعدد والاختلاف. بل أثارت مخاوف المهاجَر إليهم وكذلك مخاوف المهاجرين أنفسهم على الهوية الذاتية. وفجرت هذه المخاوف المتبادلة مشاعر الحذر من الآخر وحتى رفضه ومقاتلته. وهو ما جسَّده قيامُ العديد من الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة في أوروبا وأميركا وأستراليا وروسيا. وفي هذا الإطار تقع ظاهرة «دونالد ترامب» في الولايات المتحدة، وظاهرة ماري لوبان في فرنسا، وظاهرة «بيغيدا» (حركة المواطنين الأوروبيين ضد أسلمة الغرب)، والتي انطلقت من ألمانيا وتعمّ الآن العديد من الدول الأوروبية الأخرى. ثانياً: عولمة الاقتصاد. صحيح أن العولمة الاقتصادية أدت إلى تحرك الاستثمارات وتالياً إلى توفير فرص عمل في العديد من الدول النامية، لكنها شجعت على ثقافة «إنفاق ما لا تملك لاستهلاك ما لا تحتاجه» في مجتمعات هذه الدول.. حيث يتناقض الإنماء البنّاء مع الإنفاق الاستهلاكي. مما أوجد مزيداً من اللامساواة والحرمان.. الأمر الذي تسبب في نمو مشاعر الكراهية ضد الآخر، ودفع نحو التطرف. ثالثاً: الإنترنت. توفر الأدوات الإلكترونية فرصاً غير مسبوقة للاختيار، وليس للتواصل فقط. وتقدم للشباب عروضاً مغرية وسهلة للتقرير بسرعة ومن دون البحث في النتائج والمآلات. رابعاً: الثقافة الذاتية، التي تجعل الفرد يشعر بأنه سيد نفسه، وصاحب قرار تقرير مصيره، الأمر الذي يوفر له الأرضية الإغرائية للشعور بذاتية مستقلة. كانت هذه الذاتية تتعرض في السابق للتجاهل واللامبالاة، أما الآن فتقوم بمبادرات انتقامية فورية من دون حسابات مسبقة. ساعدت هذه العوامل الأربعة مجتمعةً على تحرير الفرد من جهة، ووفرت له الوسائل للتعبير عن تحرره الشخصي وعن استقلاله الذاتي بالتسلح وبالقتال. وكان الأخطر من ذلك كله توفير غطاء معنوي فضفاض من خلال اعتبار الممارسات الإرهابية جهاداً في سبيل الله! وإذا كانت هذه العوامل قد عرّضت حتى المجتمعات الغربية ذاتها للتمزق على صعيدي العائلة والنسيج الاجتماعي، فإنها وفرت للعناصر التي تشعر بالإقصاء والتهميش على خلفية عنصرية أو دينية، فرصة لإثبات الذات عبر امتشاق السلاح للدفاع عن قضية وهمية صورت لهم على أنها إنسانية عادلة ومقدسة. وتبين الدراسات التي أعدها خبراء واختصاصيون أوروبيون أن عدم المساواة في الدخل وعدم احترام التعدد (الديني والقومي) مع اتساع دائرة التنوع الديموغرافي، أدت إلى عزل فئات اجتماعية على قاعدة التجانس الثقافي الاقتصادي. ومن هذه الفئات خرج المتطرفون الذين أرادوا الانتقام من واقعهم المعنوي المتهالك أو من واقعهم المادي السيئ، بالانضمام إلى حركات التطرف العنيف. كما تبين هذه الدراسات أن المراهقين المنعزلين في مجتمع ممزق، يتربون على مشاعر الكراهية والرفض لمجتمعات لا توفر لهم الحد الأدنى من ضرورات التكامل والتعاون مع الآخر المختلف. فالتمييز العنصري يتأصل أكثر ويدفع بالمهمشين إلى التطرف.. وينمي لديهم الشعور بالانتقام. إن المتطرفين الذين هجروا مجتمعاتهم الأوروبية والتحقوا بـ«داعش»، هم عدسات يقرأ الأوروبيون اليوم من خلالها ما في عقولهم.