يجد المواطن العربي بغض النظر عن موقعه في السلم الاجتماعي وفي الحياة بشكل عام نفسه اليوم بين قوتين ضاغطتين هما: الإعلام باعتباره سلطة فاعلة ومؤثرة وموجهة، خيراً أو شراً، ولكنها في أغلب الدول العربية ليست صانعة لرأي عام يمكن أن يؤثر على المواقف لجهة تغييرها أو تثبيتها أو نفيها، والسلطة ممثلة في الحكومات والأنظمة، وما يتبعها من مؤسسات رسمية من حيث هي إعلام موجه، يحمل تبريراً لكل موقف أو قرار حتى لو كانا مرفوضين من غالبية الشعب، أو أتَّخذ بُعداً قومياً لجهة الرفض، وخير مثال في الحالة الأخيرة الموقف من القدس هذه الأيام، مع أن الحكومات تؤسس مواقفها طبقاً لما تراه مصلحة عامة، ووفقاً للدساتير والقوانين، أو تطويع هذه الأخيرة لتصبح في خدمتها. الحال هذه، إنْ سلّمنا بوجودها، أو حتى قبولها من ناحية التحليل، تكشف عن وجود نوع من الشراكة في التأثير على الأحداث، لكن دون القدرة على توجيهها، نظراً لتبادل المواقع أو تداخلها بين الإعلام والسلطة، الأمر الذي سيصل بنا إلى أزمة حقيقية نخسر فيها الحكومات والإعلام معاً، ومع الوقت تصبح تلك الخسارة المتوقعة قاعدة، وليست استثناء، مع الاعتراف أنه في حالات كثيرة برهنت الحكومات العربية مهما كان النقد الموجه لبعضها أنها أرحم على الشعوب من عناصر النخبة المنشغلة بالإعلام، ما يعني أن أزمة الإعلام أعمق وأشمل وأكبر من أزمات الحكومات، فهذه الأخيرة قد تسهم في كوارث وأزمات متعلقة بالحرية، لكنها قد تتمكن من تصحيح الوضع، وتحقيق الحرية ولو بدرجة نسبية، ولكن الإعلام يكرس أزمات تتعلق بالضمير، وبالأخلاق، وبالولاء، وبالهوية، وهو وحده التمكن من قول" إن وعى المشرفون عليه لدورهم ورسالتهم، مهما كانت تكلفة ذلك، إن لم يقلها في أوعية الدولة الرسمية، فعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وما أكثرها اليوم. الإعلام العربي على الرغم من كُثرة وسائله، وتعدّدها، وتنوّعها يتّجه نحو أزمةٍ حقيقيةٍ ذات صلةٍ بأزمة الدَّولة الوطنية، لذلك على القائمين عليه الاعتراف بأنهم يُبشرون بحرية وهميّة، مهما جذبتنا أضواء الاحتفالات بالصخب، أو بالإعلاء من رمزية الجسد والإغراء به باعتباره مُحفزاً للحركة بدل الروح، وبالنسبة للإعلام المرئي تحديداً سيأتي عليه يوم، تقلّ فيه نسبة المشاهدة لكثرة الفتن، ويُعْرض المشاهدون العربُ عن متابعة فصول قصص الدماء تماماً، كما هي بداية تراجع قراءة الصحف والكتب الآن. أَلَمْ يكنٍ الإنسان العربي أكثر إقبالاً وتأثَّراً بمطالعة الكتب في ستّينات وسبعينات القرن الماضي، حين كان عدد الجامعات والطلبة والأساتذة محدوداً بعد خروجنا من حقب الظلم والظلام الاستعماريين؟.. فكيف تراجع اليوم مع التطوّر الحاصل في اكتساب المعرفة؟!.. إنها لمفارقة حقاً أن يحرّر من كان أغلبهم أميين دُوَلهم، ويتحوّل أبناؤهم أو بعض منهم إلى شن حرب داخلية، بأسنا بيننا شديد فيها، وإعلامنا أحد أطرافها الفاعلة في ساحات الدماء. الإعلام العربي يخْلِط اليوم بين متابعة الأخبار وبين مناصرة فريق على حساب آخر، وبوعي أو بدونه يُنَاصر بعض منه قوى خارجية لتدمير ما بقي لنا من دُولٍ وطنية تعصف بها الريح من كل جانب، وتَسْحَبُها الأمواج بعيداً عن مرافئ الأمان والاستقرار، وتلك في نظري إشكالية أمّة، وهي بمثابة أزمة، ظاهرها الإعلام المدافع عن الحريّات والتّغيير، وباطنها قضايا كثيرة، لعلِّ أهمها: إعادة النّظر في طبيعة الدُّول العربية، وفي معتقدات شعوبها.. الأمر الذي يِشِي بمجتمع جديد، وإعلام جديد، حين تضع الحرب أوزارها.