يوم الاثنين الماضي، 18 ديسمبر، قدم الرئيس الأميركي دونالد ترامب نسختين من استراتيجيته الجديدة للأمن الوطني للولايات المتحدة. والنسخة الأولى تمثلت في كلمة ترامب التي ألقاها في مبنى رونالد ريجان بوسط واشنطن أمام جمهور صفق أكثر من مرة خلال إلقاء ترامب لكلمته، وكانت كلمة ترامب بمثابة سرد للتعديلات التي أجراها الرئيس الخامس والأربعين على السياسات الأمنية الفاشلة وغير الفعالة للرؤساء السابقين عليه. ومثلت الكلمة استعراضاً متباهياً بنجاح سياسة ترامب الجديدة ومدى مساهمتها في «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى». وأكد الرئيس أن «أميركا تعود وتعود بقوة» بفضل قيادته. وألقى ترامب باللوم على الرؤساء السابقين عليه مباشرة الذين اتهمهم بأنهم تفاوضوا في صفقات تجارية كارثية، وعملوا على بناء دول في الخارج بينما تقاعسوا عن بناء الداخل، ولم يتصدوا للحلفاء الذين لا يدفعون نفقة الدفاع عنهم بينما ترك هؤلاء الرؤساء حدود الولايات المتحدة «مفتوحة على مصراعيها»، بل والأهم من ذلك، هو أن هؤلاء الرؤساء «فقدوا رؤية مصير أميركا، وفقدوا إيمانهم بالعظمة الأميركية». أما النسخة الثانية من الاستراتيجية فقد جاءت في وثيقة مؤلفة من 55 صفحة تمثل استراتيجية للأمن القومي يطالب بها الكونجرس كل إدارة. وهذه النسخة أقل استعراضاً وأقل تركيزاً على الذات بكثير في لغتها من كلمة ترامب الشفاهية. ويستند الموضوع الرئيس للوثيقة على أربع ركائز للسياسة، بعضها تم عرضه خلال العام الماضي، وأول هذه الركائز: حماية الشعب الأميركي وأرض الوطن وطريقة الحياة الأميركية. وثانيها: تعزيز الرخاء الأميركي. وثالثها: الحفاظ على السلام من خلال القوة. ورابعها: تعزيز النفوذ الأميركي. واللافت للنظر في الوثيقة هو قرب أفكارها الشديد مع تلك التي تحدث عنها الرؤساء السابقون الذين شددوا جميعاً على موضوعات مماثلة في وثائقهم عن الاستراتيجية والأهداف الأميركية. وكما هي الحال في السنوات الماضية، تم الإشارة إلى كل من روسيا والصين باعتبارهما خصمين منافسين لا يشاركان أميركا في قيم تعزيز الأعراف الدولية التي مثلت محور السياسة الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتنص الوثيقة بصراحة على أن «الروس يستهدفون إضعاف النفوذ الأميركي في العالم وفصلنا عن حلفائنا وشركائنا». وذكرت الوثيقة أن «روسيا تتدخل في الشؤون السياسية الداخلية للبلدان في جميع أنحاء العالم». وتؤكد الوثيقة أنه «من خلال غزو جورجيا وأوكرانيا، أظهرت روسيا استعدادها لانتهاك سيادة الدول في المنطقة». ولم تشر الوثيقة بصورة مباشرة إلى اتهامات من أجهزة المخابرات الأميركية بأن روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأميركية العام الماضي. ونقلت وكالة «رويترز» أن الوثيقة جاء فيها «روسيا تستخدم عمليات معلوماتية في إطار جهودها الهجومية عبر الإنترنت للتأثير على الرأي العام في أنحاء العالم. وتمزج حملاتها، ذات التأثير، عمليات المعلومات السرية وحسابات الإنترنت لأشخاص وهميين بوسائل إعلام تمولها الدولة ووسطاء من طرف ثالث ومستخدمين مأجورين لمواقع التواصل الاجتماعي». والجدير بالذكر أن ترامب تحدث مراراً عن رغبته في تحسين العلاقات مع بوتين، برغم أن روسيا أجهضت طموحات الولايات المتحدة في سوريا وأوكرانيا، ولم تقدم دعماً يذكر لواشنطن في حل أزمة كوريا الشمالية. لكن الوثيقة كانت صريحة وجريئة فيما يتعلق بالممارسات التجارية غير العادلة لدول مثل الصين. وفي هذه النقطة، يؤيد كثيرون في الولايات المتحدة ترامب برغم أنهم ينتقدون بشدة سياساته، وتنتقد الوثيقة بالقدر نفسه من الصراحة الموقف العسكري العدواني للصين في بحارها الإقليمية. وكما كان متوقعاً أشارت الوثيقة إلى كوريا الشمالية وإيران، بالإضافة إلى جماعات إرهابية مثل «داعش»، باعتبارها أطرافاً مارقة تهدد المناطق التي توجد فيها، ويجب التصدي لها مباشرة عن طريق العمل السياسي والعمليات العسكرية في حال الضرورة، لكن هذه الوثيقة أشارت إلى الهند باعتبارها شريكاً رئيساً مسؤولاً في منطقة الهند والمحيط الهادئ. وأضافت الوثيقة: «سنعمق شراكتنا الاستراتيجية مع الهند»، وأن الولايات المتحدة «ستسعى إلى تعزيز التعاون الرباعي مع اليابان وأستراليا والهند». وفي تناقض واضح مع إدارة أوباما، قللت وثيقة ترامب الاستراتيجية من أهمية التهديدات الأمنية لتغير المناخ بينما أقرت بأن «السياسات المناخية ستظل تشكل نظام الطاقة العالمي». وتشدد الوثيقة على الأهمية المستمرة للوقود الأحفوري وعزم الولايات المتحدة على تبني سياسة «هيمنة الطاقة»، كما أكدت الوثيقة على أن الولايات المتحدة ستوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة. وأضافت: «ستظل الولايات المتحدة رائداً عالمياً في الحد من التلوث التقليدي، وأيضاً في الحد من الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري مع التوسع في اقتصادنا». لكن، لسوء الطالع، لا تتوافق مثل هذه الوثائق التي تقدم للكونجرس إلا نادراً مع ما يحدث في العالم الواقعي لأنها لا تستطيع استشراف أحداث غير متوقعة وبعيدة المدى مثل الانتفاضات العربية التي بدأت في أواخر عام 2010. وكان لهذه الانتفاضات العنيفة تأثير استثنائي على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا هيأت البيئة لصعود «داعش». ونقلت وكالة رويترز عن مسؤول شارك في إعداد الوثيقة أن استراتيجية ترامب الجديدة الواردة في الوثيقة التي قُدمت للكونجرس تأثرت كثيراً بأفكار كبار مسؤولي الأمن القومي، وليس بأفكار الرئيس نفسه. وصعوبة التوفيق أحياناً بين بعض مضمون تصريحات ترامب والوثائق الرسمية تمثل أحد العوامل المثيرة للقلق في عصر ترامب. جيفري كمب* * مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشيونال إنترست»