يقول الغربيون عادة إنهم متحدون، لأن قيماً مشتركة تجمع بينهم: الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، والمساواة بين الرجال والنساء، واحترام حقوق الأقليات، واستقلال القضاء، وحرية الرأي، وحرية الصحافة والممارسة الدينية. وبناءً على ذلك يحلو لهم إعطاء الدروس للأمم الأخرى التي يرون أنها لا تحترم بعض هذه القيم، متناسين في كثير من الأحيان أن دواعي استيائهم من الآخرين تكون في بعض الحالات انتقائية، كما أن مبادئهم الحقوقية قد تصدر وفق ازدواجية معايير فجة. وفوق ذلك أن صرامتهم في الانتقاد قد تتغير وتتأثر أيضاً بمستوى وطبيعة العلاقات التي تربطهم مع الأطراف التي يتهمونها بالضلوع في انتهاك هذه القيم والحقوق، وليس بالضرورة بمدى خطورة الممارسات في حد ذاتها. فالدول المناهضة للغربيين هي الأكثر احتمالاً عادة لأن تلقى عليها الدروس الحقوقية، ويندد بها مقارنة مع الدول الحليفة أو الشريكة تجارياً. بل إنه يقع أحياناً أن ينتقص الغربيون أنفسهم من هذه القيم التي يعتبرونها قيماً غربية مؤسِّسة، وهو ما يضعف من مصداقية خطابهم الحقوقي، في النهاية. ولكن على رغم كل هذه التناقضات المحتملة، توجد فعلاً منظومة قيم غربية جامعة، معروفة ومعلنة، تتوحد حولها البلدان الواقعة على جانبي المحيط الأطلسي. ولكن أكبر نقطة خلاف بين الطرفين يكمن في نقطة بالغة الأهمية، ولكن يتعلق بها طرف، وينبذها الطرف الآخر، على رغم ضرورتها الشديدة ولكون التحديات العالمية تحتم جعلها بوصلة وحجر زاوية في الحياة الدولية، ونعني هنا: قيمة التعددية، والتعاون متعدد الأطراف في العمل الدولي. ولم تصبح التعددية ضرورية الآن فقط مع بزوغ ملامح عالم متعدد القطبية، ولكن أيضاً بسبب وجود عالم يزداد ترابطاً بشكل كبير. فلا يوجد تحدٍّ كبير واحد مما يواجه الإنسانية الآن يمكن الاستجابة له وحله بإمكنيات دولة وطنية واحدة حصراً، وإنما يمكن ذلك فقط من خلال التعاون والتضامن والشراكة متعددة الأطراف، على أوسع نطاق، أي من خلال سياسة تعددية دولية. فبمثل هذه التعددية وحدها يمكن مواجهة تحدٍّ كالاحترار المناخي، ومخاطر الإرهاب، والتحدي الديموغرافي السكاني، وتيسير النفاذ العمومي إلى الموارد العالمية، ووضع قواعد نظام أمني دولي فعال. ولئن كان الاتحاد الأوروبي متعلقاً بطبعه بالتعددية ويحمل النزوع إليها في مورّثاته، فإن الولايات المتحدة لا تحمل ذات النزوع وغير متعلقة بها، إن لم تكن تنبذها من الأساس. وهذا النبذ له جذور قديمة وعميقة. ولاعتقادها باستثنائيتها، ولهذا خلفيات عديدة، تجد الولايات المتحدة عادة صعوبة في تقبل جدوى الانخراط في عمل ذي صفة جماعية، لا تكون هي فيه سوى طرف فقط بين أطراف أخرى عديدة. ولاستبطانها أيضاً لنوع من القناعة بـ«المصير الواضح» والمضمون الذي ينتظرها فهي ترتاح عادة أكثر لفكرة قيادة عالم محكوم بالأحادية، مقتنعة بأنها ستتمكن من السير به إلى مآلات إيجابية في كل الأحوال. وقبل الحرب العالمية الثانية كان المزاج الأميركي العام يجنح للانعزالية. وقد خرجت منها أكثر قوة بكثير من جميع الفاعلين الآخرين في النزاع، وتربعت على «رأس العالم الحر». ولعدم تعودها على التعامل مع شركاء من موقع الندية، ربما باستثناء الفترة القصيرة لنيكسون- كيسنجر، فلم تتعود، حقيقة، على مواجهة ضرورة الانخراط في دبلوماسية العمل بين أطراف متكافئة. ولذا فعند نهاية عهد الثنائية القطبية فضلت أميركا تقديم نفسها كطرف منتصر في الحرب الباردة بدلاً من تقديم نفسها كبانٍ لنظام عالمي جديد بديل. ولا يخلو من الدلالة في هذا المعنى أن رئيساً، كان يصنف عادة ضمن أنصار التعددية، مثل بيل كلينتون، قال صراحة، ودون حرج، إن الولايات المتحدة هي «الأمة الوحيدة التي لا غنى عنها» في العالم. والحقيقة أن النزعة الأحادية الأميركية لم تبدأ فقط مع بوش الابن، أو بعد 11 سبتمبر، ومن باب أحرى أنها لم تبدأ الآن أيضاً مع دونالد ترامب. إنها هي أساس وجوهر سياسة أميركا الخارجية. وقد تمكن باراك أوباما من تقليصها فقط، ولكنه لم يتمكن من تحييدها. في حين يدفع بها ترامب الآن إلى ذروة حدودها القصوى. ومن سيأتي بعده، كائناً من كان، لن يتمكن هو أيضاً من التخلي عن هذه النزعة، وأقصى ما يمكن توقعه منه هو تعديلها، أو التخفيف من غلوائها فقط. فالفرق بين الإدارات الأميركية في نزعة الأحادية هو فرق في الدرجة فقط، وليس في النوع. وهذا السلوك الأحادي الأميركي، المتجذر في المُدركات، وطريقة التفكير، وتقاليد العمل السياسي، يبقى أحد أكبر التحديات التي تواجه الأوروبيين. إذ في وقت صارت فيه التعددية أكثر ضرورة من أي وقت مضى، فما العمل مع أمة ذات نزوع أحادي، وترى في العمل متعدد الأطراف قيداً وعائقاً لهوامش تصرفها، بدل أن تراه كوسيلة عمل جماعي لا غنى عنها؟ إن هذا يحتم على أوروبا أن تؤكد دورها وحضورها كقوة، ولكن كقوة رافعة ودافعة لروح التعددية على المسرح الدولي الآن، وفي المستقبل.