«إذا لم يتم السلام سريعاً وقريباً في سوريا، فسيتم تقسيمها»! نعم، هذا ما صرح به المبعوث الدولي دي مستورا! وبهذا التصريح وضع الجميع أمام حالة إشكالية قصوى، أي أمام موقف ظهر سابقاً في التاريخ السوري أثناء بروز محاولة تقسيم سوريا على أيدي المستعمرين الفرنسيين. وحين نفكك الأحداث التاريخية المعنية هنا، فإننا نكتشف أن التاريخ يظهر مرتين اثنتين أو أكثر: حين يسجّل حدثاً ما في سياقه، ويكون ذلك متوافقاً مع واقع الحال التاريخي البشري؛ وحين يعود هذا الحدث ليظهر ثانية، ساخراً مِمَن يعنيهم هذا، ومحذّراً إياهم من حدوثه مرة أخرى بإبقاء هذه الحال مفتوحة! وحين ذلك، تكون المأساة قد سجلت لنفسها انتصاراً على مَن يهمهم الأمر. وإن لم يرعوِ هؤلاء عن أخطائهم، فهذا ينذر بالكارثة. وفي هذه الحال، ينبغي أن نوضح أن التاريخ لا يأتي حسب رغبات البشر، وإنما وفق قوانينه الخاصة، التي يكوّن البشر المعنيون هم أنفسهم حقلاً من حقولها. ولكن الدراما التاريخية المأساوية تتصاعد وربما تكتمل عمقاً وسطحاً، دون تدخّلهم في ذلك عجزاً أو غباءً أو خيانة.. وأحياناً تكون أسباب ذلك هي كل تلك الحالات الثلاث مجتمعةً، وربما بالإضافة إلى مضاعفات أخرى تأتي من الداخل الوطني والخارج الأممي؛ وتكون عوامل الغباء والاستغباء والأنانية والقصور والخوف، وغيرها مما يدخل في خانة سدّ الآفاق أو انسدادها. ونعود إلى أطروحة دي مستورا. فقد وضعنا هذا الرجل أمام خطر كبير، إن لم يتم السلام في سوريا قريباً، ويعني به خطر الانقسام. وهنا نستنبط أمرين اثنين كلاهما مرّ. الأول يتمثل في تباطؤ الوصول إلى السلام بعد اندلاع حرب عبثية تركت نتائج خطيرة تتمثل في اغتيال السلام، بعد رفضه وعدم الاستجابة لمطلبه، ومعه عدم الاستجابة لحلول إصلاحية ضرورية وممكنة في بداية الأحداث الموجِعة والمكلفة بما يفوق الوصف. لقد خُيّبت الحكمة السياسية الوطنية على نحو مُكلف بأشكال خطيرة ومؤسفة. والأمر الثاني نجم عن عدم الاستجابة لتلك الضرورة فكان من دواعيه المؤسفة أن قوى أخرى من العالم (ومنها إيران وروسيا وأطراف أخرى)، استغلت الموقف وواقع الحال باتجاه تعقيده، حيث دخلت سوريا وأوجدت لنفسها مواقع فيها ذات طابع عسكري أولاً، وذات طابع يقترب من التأبيد ثانياً؛ إضافة إلى ابتداع حلول الهجرة والتهجير في الداخل السوري، كما باتجاه العالم الواسع. لقد كان ذلك مؤلماً ومحبطاً ربما حتى الثمالة، إضافة إلى اضطرابات داخلية أثرت على وحدة الشعب السوري بكل أطيافه وأجزائه. وكانت حركة الهجرة والتهجير قد عصفت بنصف السوريين بافتقاد أبنائهم وتعرضهم للمجاعة والمذلة، وخصوصاً منهم من بقي من الأطفال والنساء والقاصرين. ومع هذا جاء الأغراب من مناطق متعددة، يحملون أطماعهم ورغباتهم الأنانية. واختلط الحابل بالنابل، ليخلق أحوالاً فظيعة في حياة الناس، من الجوع وافتقاد الحدود الدنيا من الحاجات. إنها حالة قد تكون فريدة في حالات الحروب والنزاعات، وربما الأكثر حضوراً في مرحلة الوحشية البدائية. ذلك كله حوّل سوريا إلى «قصْعة» يتقاتل الطامعون والمجرمون والمحرومون حولها. وفي سياق ذلك وما أنتجه من أمراض عضوية ونفسانية ومن تدمير للمؤسسات والبيوت والممتلكات، نشأت أطراف ممّن أُرغموا بحكم العجز، على البقاء، تُمثّل مشاريع محطّمين، ولكن دون فت إرادتهم الوطنية ومن دون أن يُصابوا بمرض الاستقواء بالآخر، فظلوا مناضلين من أجل وطنهم، بعيدين عن التأثر بالأغراب وبادعاءاتهم بتقديم المساعدة لهم، في كيفية ما، للحفاظ على وطنهم. فلم ينغمسوا مع الآخر المنافق، ناهيك عن الأطراف الاستعمارية. لقد ظهر ذلك الموقف وتجسّد في تاريخ الشعوب العربية، وضمنها الشعب السوري، أثناء محاولاتها تحقيق استقلالاتها الوطنية. ويمكن أن نستلهم مواقف كثيرة لعدد من المناضلين في سبيل أوطانهم، برغم الخطاب الاستعماري المنافق. أما ما يخص الموقف السوري فيظهر جليّاً في مواقف القادة الوطنيين في مرحلة تحقيق الاستقلال من الاستعمار الفرنسي. والآن، نعيش حالة فظيعة من الاضطراب السياسي والأخلاقي يعمل أصحابها على أن يعودوا إلى القرن التاسع عشر باسم استقلال الأوطان والجماهير والطوائف لاختراق سوريا. ولكننا نرى ونؤمن بأن شعباً قدّم هدية للعالم تمثلت في الأبجدية، أي بالرؤية الوثابة لأهمية اللغة الوطنية والبحث التاريخي في الشعوب وخصائصها ونضالاتها، سيبقى عصياً على التقسيم والتقزيم، وسيبقى نجماً ساطعاً في علاقاته مع الآخرين، بكثير من الحكمة، ولكن كذلك بالكفاح!