قال متحدِّث في جلسة ضمَّت عرباً من جنسيّات مُخْتلفة: «الأحسن للعرب اليوم هو أن تتحرك كل دولة بمفردها بما يخدم مصالحها الخاصة، دون اكتراث بردود أفعال الدول العربية الأخرى.. لأنه لا وجود اليوم للعرب في شكل أمة قائمة مُوحّدة».. مثل هذا القول يردد على نطاق واسع في كل الدول العربية على المستويين الشعبي والرسمي، والوقائع والحقائق الكاشفة عن تآمر العرب على العرب، وخذلانهم بعضهم لبعض، ناهيك عن تحول كثير من دولهم إلى ساحات الفوضى وميادين للفتن وسفك الدماء، يؤكد أن لا جدوى من أيّ طرح أو دعوة للمّ شملهم، وهذا يعني أن نهايتهم الوجودية وليست الثقافية فقط أصبحت وشيكة.. فهل هذه مُسلَّمة أم تحتاج إلى نقاش جاد وصريح؟! علينا بكل وضوح وصراحة وشفافية أن نقرّ ونعترف أن الوضع العربي في مُجْمله سيئ للغاية، وأنه يشي بمزيد من الانحدار في المستقبل القريب، لكن هذا لن يُلْهينا على جملة من الحقائق، منها: مرجعية تجارب التاريخ، التي تؤكد على عودة الأمة العربية ونهضتها كلما اعتقد الأعداء أنها انتهت، ومنها أيضاً: أن نكسات الحاضر وأزماته نابعة من كونها أمة تحارب على عدة جبهات دفعة واحدة، وهناك ما هو أهم من هذا، وهو: أنها أمة خُلِقت لتَبْقى حتّى يرث الله الأرض ومن عليها، ما دام فيها من يَعْملَون من أجل السلام والأمان والتعارف، كمنطلقات حضارية لنشر رسالة الإسلام ودعوته ضمن عالميته، وليس فرديته أو حزبية أو حتى قوميّته. لسنا أُمَّةً عاجزةً عن العودة إلى ينابيع اليقين، وهي اليوم في نظري في مرحلة تمييز الخبيث من الطيب، الطالح من الصالح، العاق من البار، الوفي من الخائن، العزيز من الذليل، العاقل من المتهوّر، وهذه جميعها تتعلق بالبعد الزمني للأمة، وهي تُشكل الروح الجماعية، وإن بدت في نظر البعض غائبة ما يعني أننا في زمن «الرّوح العربية»، وهي بلا شك مرحلة يقين، وليست حالاً من الشك، على الرغم من أن كل المعطيات والمؤشرات تشير إلى عكس ذلك، ولا يبعدنا عنها أو يجعلنا نتجاهلها ما نعيشه من تحديات اِلْتقت فيها الأنفس الضعيفة مع جيران عادوا العرب في كل مراحل التاريخ، حتى عندما أصبحنا نحن وهم تحت مظلة الإيمان، وأيضاً عندما نصبناهم قادةً علينا، أو حين أخذوا السلطة بالقوة، مع أن طريقهم إلينا كان عبر الإيمان. هل هنالك من هم أهل أكثر عدلاً وشورى وديمقراطية في التعامل مع الآخرين من العرب، بعد أن حولهم الإسلام إلى أمَّة عالميّة؟، وهل هنالك أمة في الأرض قبلت أن يقودها الآخرون برضى، وهي تعرف ظلمهم وبطشهم وكبرياءهم غيرنا؟ هل هناك شعب وهو غالبية قبل أن تحكمه أقلية طائفية أو مذهبية أو عرقيَّة غيرنا؟.. كل هذه الأسئلة تأتي بالنفي، وليس ذلك نتاج تطورنا وتحضرنا ولكنه ميراث النبوة، منذ أن تمّت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.. أعرف أن كُثْراً منَّا مناصرين لأطروحات من يحملون وِزْر التاريخ سيقولون، اعتماداً على تاريخ منصف أو ظالم أن العرب استولوا على دول الآخرين وخيراتهم وسمُّوها فتحاً، واعتبروا فتح الأجانب لدولنا استعماراً، لهم أقول: إن وقائع الحاضر تقدم إجابات حاسمة، وهي أننا نواجه اليوم ظلماً عالمياً يصل إلى درجة الإبادة، والحروب في دولنا خير دليل على ذلك، ولولا أننا في زمن الرُّوح العربيّة لانتهينا فعلاً من الوجود.