أسكن في مونتريال بكندا في منطقة كيركلاند التي تحولت إلى باقة من الأنوار، احتفالاً بميلاد المسيح، أما في الشرق الأوسط فهناك حروب لا تنقطع، حيث التهبت المشاعر بالكراهيات والصخب عقب إعلان القدس عاصمة لدولة إسرائيل! والواقع أن إعلان أميركا بموافقتها على هذه الخطوة جاءت كنوع من البروتوكولات الشكلية لتحويل الواقع إلى مسمى. ونحن نعرف أن المولود يأخذ اسمه بعد التشكل والولادة والخروج إلى عالم الأحياء. وولادة إسرائيل جاءت بعد طول مخاض في أوربا، لكن صيحة الجنين واستقباله للحياة كانت في عام 1948، أما العاصمة فأعلنها «موشي ديان» ولم يبق إلا تسمية هذا الغلام الذي لم يكن له من قبل اسم، الأمر الذي تولته إدارة ترامب في نهاية عام 2017. العرب في العادة يلحقون الأحداث بعد أن تقع، أما الاستراتيجيون الصهاينة فيخططون للمستقبل، ابتداء من ولادة هذا الكيان، وليس انتهاء ببناء الجدار النووي، وإقامة حوائط عازلة، وقبلها هزيمة العرب في جولات الحروب السابقة، وحالياً بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، كما أعلن هتلر أن الرايخ الثالث سوف يمتد في العمر ألف عام ويزيد؛ فهلك خلال 13 سنة فحسب. فقد دلفت جيوش الفقراء من الصليبيين بقيادة ملك أمي من طراز «شارل قلب الأسد» فقتلت مائة ألف من الأنام أو يزيد، في سبع حملات هوجاء، فعاشوا وعاثوا في الأرض تسعين عاماً، ثم ولوا الأدبار مدحورين. وإسرائيل حالياً امتد بها العمر سبعين عاماً؛ فهل ستعمر قرناً كاملًا، أم ينطبق عليها قانون ابن خلدون حول عمر الدول، أي 120 عاماً على الأكثر؟ المشكلة ليست هنا، بل عند العرب! فالتناقض الأكبر في العالم العربي ليس وجود إسرائيل، بل النزاع العربي العربي، ولو اختفت إسرائيل من الوجود لبنى الفلسطينيون لأنفسهم عدواً خرافياً ولتقاتلت «فتح» و«حماس» بكل حماس. هل يمكن لنتنياهو أن يقتل يهودياً واحداً ويبقى في الحكم ساعة؟ ها نحن في سوريا نشهد تدمير البلد، وقتل مليون شخص، وتشريد عشرة ملايين آخرين، وهو ما لم تفعل إسرائيل عُشر عُشره في عشرات السنين! هل ثمة دليل أكبر من هذا على أن مشكلتنا العظمى هي التفتت الداخلي، وأن المرض ينفجر بانهيار الجهاز المناعي، وأن الغربان تحلق على الجثث، وأن المستنقع يفرخ البعوض، وأن الدول تنتهي بالنزاع الداخلي، وأن علل انهيار الحضارات هو الانتحار الداخلي، وأن نهاية الاتحاد السوفييتي لم تكن بهجوم خارجي، بل بانهيار داخلي بحت. وبالمقابل فإن العرب إن تفاهموا طلبت إسرائيل ودّهم، وتحولت إلى فورموزا الشرق الأوسط، كما كان الحال مع الصين ذات يوم. إن موقف العرب الحالي يذكرني بقصة جحا حين سرق خُرْجه وهو الكيس بجيبين يعلق مثل البردعة على ظهر الحمار، غضب جحا ووقف في السوق يعلن بأعلى صوته أنه سيفعل الأفاعيل ويفجر الأرض ناراً إن لم يسارع القوم بالعثور على خرجه المسروق! اضطرب القوم وخافوا وفعلاً اهتدوا إلى السارق فأعادوا الُخرج لجحا على عجل. ثم وقف بعضهم متسائلين: ياجحا، فعلاً نريد أن نعرف ماذا كنت فاعلا لو لم نعثر لك على الخرج؟ فقال: في الواقع كان عندي خرج قديم كنت أنوي استعماله محل المسروق! هذه القصة تشرح موقف العرب من فلسطين المسروقة، إذ ليس أمامهم لتغيير الموقف إلا أن يلجوا ثلاث أبواب مغلقة: الإدانة والشجب والاستنكار. فكم هو معيب أن تعلن إسرائيل أن مولودها الذي ولد منذ حرب 1967 قد أهدته اسماً بعد تأخر طويل وتردد، وهو ليس من طبيعة الآباء الاستراتيجيين الذين أنجبوا إسرائيل على أعين القوم وهم يشهدون. بدعم من مارك ألماني وتقنية نووية فرنسية ووعد من بريطانيا بمنحهم ما لا تملكه! وأخيراً التتويج بهذا الاعتراف الأميركي الذي قد يفتح عيون العرب على طبيعة العالم الذي نعيش فيه، فيعملوا شيئاً بدل الاستنكار والشجب والاستهجان والدعاء!