على كثرة الكتب التي صدرت خلال الأشهر الأخيرة عن التحديات الجسام، والمشكلات العظام، التي يتخبط في معمعتها الاتحاد الأوروبي ومن ورائه المشروع الأوروبي كفكرة وحلم، يكتسي كتاب السياسي والأكاديمي الإيطالي «أنريكو ليتا»، الصادر مؤخراً تحت عنوان: «صناعة (تفعيل) أوروبا في عالم من الخام (قيد التشكل)» أهمية استثنائية، وذلك بالنظر إلى الرؤية العميقة والتوصيفات الدقيقة التي يتسم بها طرحه، وخاصة أنه هو نفسه سبق أن تولى رئاسة المجلس الإيطالي ورئاسة الحكومة في روما، في فترة عاصفة شهدت إحدى ذرى الأزمة المالية والمأزق النقدي، فضلاً عن ذروة تدفق المهاجرين غير الشرعيين على دول جنوب الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها إيطاليا بطبيعة الحال. وفوق هذا يصف أيضاً «ليتا» نفسه بأنه أحد أنصار المشروع الأوروبي الأكثر اقتناعاً وتعلقاً به وجدانياً كفكرة وكمشروع وحلم قاري، ناضلت في سبيل تحقيقه أجيال عديدة، لأزمنة مديدة، لتصل به في النهاية إلى ما وصله مع مطلع الألفية الجديدة من تكامل واسع واندماج اقتصادي ووحدة نقدية، قبل أن يبدأ العد العكسي لبداية عزوف قطاعات غير قليلة من الشعوب الأوروبية عن مشروع الاتحاد القاري. وخاصة مع تنامي النزعات الشعبوية واليمينية المتطرفة في العديد من دول الاتحاد، مدفوعة بمشكلات اقتصادية وتحديات اجتماعية وسياسية، داخلية وخارجية، هي ما تكشّف عن مأزق أوروبا اليوم. ولا تقتصر جوانب الأهمية الاستثنائية لطرح «ليتا» أيضاً على كونه رجل سياسة رفيعاً، وإنما يزيدها قيمة كذلك كونه أكاديمياً متميزاً ورئيساً لمدرسة العلاقات الدولية والعلوم السياسية في باريس، ورئيساً لمعهد جاك ديلور، الذي يحاوره مديره الصحفي سباستيان ميّار في هذا العمل التجميعي، والرؤيوي، في الوقت نفسه. وفي هذا الكتاب الواقع في 208 صفحات، يفضي «أنريكو ليتا» صراحة بخيبة أمل عميقة عن المآلات التي تأدى إليها كثير من مسارات المشروع الأوروبي، قائلاً في هذا الصدد إن أوروبا الموحدة التي كان ذات يوم يعتقد أنها غير قابلة للموت والسقوط، أثبتت الأيام الآن أنها لم تكن كذلك بالفعل، نظراً إلى حجم وزخم التحديات المصيرية التي تواجهها، على نحو يمكن أن يعيدها سيرتها الأولى، مرة أخرى، إن لم يتم اجتراح حلول جذرية لكل المشكلات، وبكيفية ترقى إلى مستوى ما يمكن اعتباره إعادة تأسيس جديدة. ومن دون ذلك فلن يؤدي ترحيل المشكلات والأزمات مع الزمن، واتساع الشرخ الواقع بين نخب القارة السياسية وقواعدها الشعبية، سوى إلى وقوع انفصال وانفصام سياسي نكد يمكن أن يؤدي مع مرور الوقت إلى عزوف شعبي عام، ورفض عارم للمشروع، ومن ثم تفككه، وعودة الدول الوطنية، والنزعات القومية والحمائية، والانعزالية، الشعبوية، من كل شكل ولون، تماماً كما كان عليه الحال حتى عقود قريبة، قبل انطلاق المشروع الاتحادي القاري. ومن هنا يرى «ليتا» أن على الزعامات الأوروبية أن تدرك حجم التحولات الجارية في عالم اليوم، الذي يصفه في العنوان بـ«الخام» دلالة على أنه قيد التشكل والتحول، وهو ما يفرض على الاتحاد الأوروبي مواكبة التحولات الكثيرة المتفاعلة داخل حدوده، والمعتملة أيضاً في الخارج في هذا المشهد الدولي العارم. وفي الجانب الأول لا بد من العمل على استعادة ثقة الشعوب الأوروبية في نخبها وحكوماتها ومشروعها الاتحادي، وجعل المواطن الأوروبي العادي طرفاً في هذا المشروع، ومستشعراً لضرورة اكتماله، باعتبار ذلك حلماً ومهمة فردية، هو شخصياً معني باستكمالها وإنجازها على أفضل وجه. وبعبارة أخرى فلا بد من الرهان على بناء أوروبا الشعوب، لا أوروبا الحكومات والاتفاقات الفوقية، والبيروقراطية «البروكسلية»، التي ترزح هناك في أبراجها العاجية، بعيداً عن هموم الشارع وأحلامه ومعاناته وآلامه وآماله الكثيرة. وعن أحلام المشروع الأوروبي غير المتحققة ووعوده المنكوثة يقول الكاتب: «إن الحلم الأوروبي تبدّد أولاً، بالنظر إلى أنه في البداية كان مشتركاً بين الجميع، ولكنه لم يتكشّف، في الحقيقة، سوى عن استفادة النخب» وحدها، في حين لم تجد فيه الشرائح الشعبية الأوروبية نفسها، وافتقد الفرد المواطن العادي نفسه، وأحلامه، فيما تأدى إليه هذا المشروع في النهاية. وفي رأيه أننا يمكن أن نكون أكثر دقة من ذلك لنقول إن «كل شيء انقلب رأساً على عقب مع مجيء العملة النقدية الموحدة (اليورو) في 2002. فبسرعة أرسلت هذه العملة الموحدة الاتحاد الأوروبي إلى مقاعد المتهمين. ولم يتم تحريك ساكن لاستباق تداعيات ذلك». وليس هذا فقط، فثمة أيضاً ثقافة مترسخة منذ عقود الوفرة والازدهار الاقتصادي هي تقاليد ومباهج دولة الرعاية والعناية التي اعتاد فيها المواطنون الأوروبيون على تكفل القطاع العام بكثير من الخدمات الحيوية، وتحمله العبء الأكبر من تكاليف الحياة التي تثقل اليوم أعباؤها حافظات نقود محدودي الدخل والشرائح العاملة. وخلال مسيرة الاتحاد لم يضع كثير من مخططيه الاقتصاديين، وبيروقراطييه المركزيين المتنفذين، هذه الحقيقة، بل الثقافة، في أذهانهم، وجعلوا تلك الشرائح تقع فريسة لأية أزمة نقدية أو مالية أو اهتزاز في القدرة الشرائية، لتتحول بسرعة إلى أزمة اقتصادية واجتماعية عامة، وبالتبعية، ومع تفاقم نسب الاستياء والاحتقان الشعبي داخل العديد من دول الاتحاد، يتحول كل ذلك الخليط المتفجر إلى أزمة سياسية تركب موجتها التيارات اليمينية المتطرفة، والأحزاب الشعبوية، لتؤجج الدعوات والنزعات المعادية لأوروبا، والمروجة للانعزالية والانطوائية، بشكل فج ومكشوف. وفي سياق وصف ورصد التحديات الكبرى التي تواجه الاتحاد الأوروبي الآن يقول «ليتا» إن المشكلات والمآزق الداخلية في الدول الأوروبية تتفاعل، عملياً، مع التحديات الخارجية الجارفة، التي سُجل أيضاً قصور كبير في الاستجابة لها، واستباق ما يمكن استباقه منها. ومن هذه المشكلات الداخلية الضاغطة على أوروبا الآن الخروج البريطاني «البريكسيت» وكيفية إدارة الشراكة في مرحلة ما بعد هذا الخروج، وأيضاً لا يقل عن ذلك ضغطاً وصعوبة تفشي الاحتقان والاستياء في صفوف الرأي العام بعد أن وصلت قطاعات غير قليلة من الأوروبيين إلى قناعة بأنه قد تم التخلي عنها، وتركت لتواجه مصيرها، وتتدبر أمورها بنفسها، بعد أن انفصلت عنها نخب الاتحاد، وهو ما يزيد من الأعباء السياسية على الحكومات الوطنية في الدول الأعضاء، التي يتعين عليها في هذه الحالة مواجهة تبعات ودفع ثمن الاستياء الشعبي الداخلي. وفيما يتعلق بالمشكلات الخارجية التي تلقي بظلالها الآن بقوة أيضاً على محدودية أداء الاتحاد على المسرح الدولي، تأتي النزعات والصراعات الإقليمية المندلعة قريباً من أوروبا، وما ترتب على بعضها من غرق القارة في سيل من المهاجرين الذين فرض وجودهم على دولها ضرورة الوفاء بالتزامات اقتصادية واجتماعية صعبة، هذا فضلاً عن استغلال التيارات الشعبوية للمغايرة الدينية والثقافية لمعظم هؤلاء المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط ودول أفريقيا جنوب الصحراء للنفخ في كير الدعاية الشعبوية ضد كل ما ترفعه أوروبا من قيم ومبادئ إنسانية، وكل هذا كانت استجابة الاتحاد له هو أيضاً منذ البداية دون التطلعات، بطبيعة الحال. هذا فضلاً عما فرضه وجود هؤلاء المهاجرين لاحقاً من شقاق بين دول الاتحاد الأوروبي ذاتها على خلفية كيفية تقاسم أعباء الاستضافة والتوطين، كما أضعفت سياسة الأبواب المفتوحة التي انتهجتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من موقفها في الداخل، وهو ما يعني، استطراداً، إضعاف الموقف الأوروبي ككل، لكون المحور الألماني- الفرنسي هو الضامن الحقيقي للمشروع الأوروبي بصفة عامة. ولا يغفل الكاتب أيضاً ضمن التحديات الخارجية الحديث عما يعنيه افتراق المقاربات والسياسات في كثير من الأحيان بين أوروبا وأميركا، حيث يُعرف عن الرئيس ترامب منذ البداية موقفه غير الودي تجاه الاتحاد الأوروبي، كما يرفع أيضاً شعار «أميركا أولاً»، وهو شعار تتردد أصداؤه الآن كذلك لدى بعض تيارات اليمين الأوروبي التي تريد انسحاب الاتحاد من الانخراط في التزاماته الدولية، والتركيز على «أوروبا أولاً». وكذلك يشير الكاتب أيضاً إلى التحدي الذي تمثله سياسات كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالنسبة للاتحاد. وفي الأخير يدعو إلى إعادة إطلاق المشروع الأوروبي من جديد، وبناء على قواعد اشتباك مع الشعوب في الداخل، والحلفاء والخصوم في الخارج، أكثر حسماً وعزماً، وأكثر قدرة أيضاً على الاستجابة لتطلعات شعوب القارة، وترجمة انتظاراتها وأحلامها، على أرض الواقع، بسياسات قادرة على قراءة مفردات الواقع الحاضر واستشراف المستقبل، وكتابة عنوان المرحلة المقبلة. حسن ولد المختار الكتاب: تفعيل أوروبا في عالم متحول المؤلفان: أنريكو ليتا وسباستيان ميّار الناشر: فايار تاريخ النشر: 2017