على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» كتب الشاعر والمؤرخ الأدبي المصري الأستاذ شعبان يوسف يقول: «الثقافة التي ظلت قروناً تنمو وتتربى على مبدأ: (السيف أصدق إنباءً من الكتب) لابد أن تنتج هذا الإرهاب». وقد يختلف كثيرون معه في القفز إلى هذا الاستنتاج، ولكن ما ذهب إليه هنا له وجاهته في حد ذاته، لأنه يعطي مثلًا ناصعاً على إعادة توظيف الشعر العربي القديم كإطار تفسيري لحوادث ووقائع تجري في أيامنا تلك، ومنها الفعل الأشد قسوة في حياتنا المعاصرة وهو الإرهاب. وهناك من بيننا من يرد على هذه المقولة بأن كل الثقافات والديانات أنتجت العنف، بلا استثناء، وأن هذه خلاصة كتاب «أعداء الحوار» للدبلوماسي والباحث الإيطالي ياكوبتشي، حيث راجع كل النصوص الدينية وتواريخ الأمم وانتهى إلى هذا، بل إن المؤرخ وعالم النفس الفرنسي جوستاف لوبون يقول، إن كل الإمبراطوريات سفكت الدماء في توسعها، بلا استثناء، ولكنه يؤكد أيضاً أن الأقل سفكاً كانت الإمبراطورية العربية الإسلامية. وهناك كتب عن الهوية تقول بوضوح، إنها كانت الأشد قتلًا في التاريخ، ولم تنج من هذا أي ثقافة، وإن العنف كان الموضوع الثالث لاهتمام البشر بعد الدين والحب. والمشكلة أنه في الوقت الذي يخرج فيه العالم من كهوف التاريخ فإن العرب والمسلمين أمة تعيش في ماضيها، وهذا هو بيت الداء، ولأنها هكذا وجدت أجهزة مخابرات غربية سهولة شديدة في إنشاء جماعات تزعم نصرة الإسلام، والعودة إلى مرجعيات تاريخية، بينما هي في الحقيقة تخدم مصالح من أنشأها ويسخّرها. ولكن هذا الرد لا يعني التقليل من التأثير الذي يلعبه استدعاء القديم، ومنه الشعر، في حياتنا المعاصرة. وإن كان الأمر في مجال العنف المنظم، سواء كان قتالًا أم إرهاباً، فإن شعر الفخر المرتبط بالمعارك، والدور الذي يمارسه «السيف»، حين يتجاوز دوره المادي المباشر إلى معنى رمزي ضمن هذا الُمنجز الشعري، في فهم طبيعة العلاقة مع الآخر، أو السعي إلى حيازة «القوة» باعتبارها تمثل مركز السياسة، لم يعد خافياً على أحد. وحين نتحدث عن أغراض الشعر العربي يطل شعر الفتوحات برأسه مرتبطاً بحركة الجهاد. ورغم أن القرآن الكريم يتحدث عن جهاد الدفع فإن الإمبراطورية الإسلامية في تمددها دفعت بعض الفقهاء إلى إنتاج «جهاد الطلب»، وعلى إثره شارك شعراء في القتال أو عبّروا عنه. وفي المقابل فإن الشعر الذي تكمن فيه قيم مثل الرحمة والسمو النفسي والأخلاقي والامتلاء الروحي والمحبة أنتجه المتصوفة، إلى جانب نثر عميق، ولكن غموضه، وعدم تحمس الطبقات السياسية والاجتماعية المتحكمة له، جعله يبقى في الهامش، ولا يستدعيه إلا الصفوة، وإن حضر فهو يُستعمل في مجال الطبابة النفسية والعاطفية التي سرعان ما تنطفئ أمام تيار الحياة الجارف الذي يلقي فيه المتطرفون خطابهم الزاعق الناعق الملتهب حماسة، ويطوعون الشعر القديم له، فيتمكنون من جذب فئات عديدة إليهم. وسواء في حالة الشعر الصوفي أو ذلك الذي يستعيره المتطرفون والإرهابيون فإننا لاشك أمام مغالطة منطقية وتفكير معوج، لا يمكن أن يغطي عليها أولئك المولعون باستخراج الأفكار من الأشعار القديمة، وهنا يقول الكاتب مصطفى ناصف: «في مجتمع يؤلف الشعر أحد همومه الأساسية المتوارثة، التي يعتز بها، يفرح كثير من الناس باستخراج هذه التأملات ولا يمحّصونها، وربما يكون مظهر الفتنة بالشعر العزوف عن تمحيص علاقته بما نسميه الأفكار والثقة المفرطة في صدقها، ولست أدري إذا كان موقفنا الثقافي يحتاج إلى رياضة هذه المسألة. ففي دوائر غير قليلة لا يزال ينظر إلى الشعر على أنه معرفة. ومن الصعب على كثيرين في مجتمعاتنا النظر إلى عبارات الشعر على أنها مجرد وسائل لمعالجة مشاعرنا ومواقفنا، وليست إسهامات جادة ونقية في تكوين نظام فكري». وفي ركاب هذا هناك افتراض يرى أن «شعرنا القديم شعر غامض وبوّاح في آن، خلافاً لما شاع في أوساط أكثر الدارسين. ومصدر غموضه ليس ألفاظه وتراكيبه، بل موضوعاته وأغراضه أو رموزه بعبارة أدق. ولذا فهو صالح ككل شعر عظيم لقراءات متعددة تفك رموزه ليبوح بثرائه الباهر، ولكن هذه القراءات مشروطة بشروط شتى تعصمها من أن تكون لغواً أو هذياناً»، حسبما يقول وهب رومية في كتابه «شعرنا القديم والنقد الجديد». ومع انتفاء هذه الشروط في الغالب الأعم لا يبقى سوى الهذيان الذي يغتبط له المتطرفون لأنهم يتوقون إلى كل ما هو أيديولوجي وصاخب وهذياني، نظراً لأنه يمكّنهم من اصطياد أتباعهم بسهولة، وهم ينشدون خلفهم قصائد حماسية عصماء، تهتز لها الصدور، وترتجف القلوب، وتخر صادعة خاضعة.