مُنذ قرابة أربعة عقود والشرق الأوسط يمر بمسارات متداخلة ومتقاطعة ولم تمض حتى الآن وفق الخطوط المتوازية لكي يتم الحفاظ على كافة المسارات سالمة وغانمة أيضاً. الشرق الأوسط القديم والجديد، الغنيمة الكبرى لكل العابثين فيه والمتربصين به الدوائر من شتى التيارات الفكرية التي لم يستطع أي منها أن يلقي عليه بظلال من الأمن والاستقرار والطمأنينة والسكينة، حتى يتنفس الصعداء ويبدأ فعلياً بالانتصار لمعركة التنمية العائمة على صفيح الأزمات المتوالية العدد، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأخيراً فكرياً. فالسياسة غير المتزنة عبرت مفاصل بعض المجتمعات العربية، واخترقت جدار الإنسان فيها، حتى أرخص ثمنها، وأهدر كرامتها الإنسانية الأزلية في ذكر الرحمن (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ...)، «سورة الإسراء: الآية 70». منذ احتلال إسرائيل للأراضي العربية ليس في فلسطين العروبة والإسلام فقط، بل حتى سيناء والجولان وغيرها من بقاع الصراع، طاف قطار التسويات على مصر والأردن في «كامب ديفيد» ووادي عربة، وهو ماض مُذّاك في شق الصف الفلسطيني بين السلطة و«حماس» للوصول إلى التسوية النهائية التي بشرت بها «صفقة القرن» التي أطلقها ترامب، ولم يحن بعد موعد وصول هذا القطار الأخير إلى المحطة التي تمثل القلب من العالم العربي والإسلامي فيما يشبه تسوية في ثوب تصفية، وكلما طال المقام بذلك زاد هاجس التصفية على صوت التسوية المطلوبة لدى كل العرب في وقفة رجل واحد للسلام بلا ملام. باقة السلام العربي، المعروضة على الجانب الإسرائيلي، يريدها منزوعة الدسم، بمعنى تصفية أي مقاومة محسوسة أو مشمومة رائحتها حتى ساعة السلام الصفرية. هذا بالنسبة إلى القضية الكبرى للعرب والمسلمين التي تتعلق بالحرم الثالث للأمة جمعاء والقبلة الأولى، ومهما قويت لغة السياسة هنا، فللأديان الثلاثة القول الفصل في ذلك، فهل هذا التوجه محل اعتبار في «صفقة القرن»؟ خلال هذه العقود الأربعة، لم تكن قضية فلسطين وحدها هي مصدر التصعيد الوحيد في الساحة الساخنة في الشرق الأوسط، فقد حل «الربيع العربي» في ثوب الحداد على الأمة بشقيها العربي والإسلامي، لتستفيق على صوت التغيير بالزحف المفاجئ على بعض الأنظمة التي نالتها الهشاشة في عظامها منذ زمن بعيد ولم تسقط حتى مجيء هذا «الربيع» الذي أنبت أعشاباً للتطرف والإرهاب سامة لكل من اقترب منها. فدخل هذا «الربيع» بوابة التسويات من النوافذ والتصفيات من تحت الطاولات والكواليس المظلمة، فتقدم على القضية الكبرى أو المحورية للأمة وحتى الساعة، واحتل سلم الأولويات وخاصة عندما أطل «داعش» من خلال هذا «الربيع» برأسه الأفعوي ليبعد الاهتمام أن هناك شيئاً اسمه «إسرائيل»، وهي المستفيد الأول من «داعش» وتوابعه من التيارات المنحرفة عن الجادة وشريكها في المصلحة إيران التي «غزت» مع الغازين لبنان و«حماس» فلسطين وسوريا والعراق ويمن «الحوثيين» الذين طردوا الشرعيين قبل أن يستنجدوا بالتحالف العربي للتدخل العسكري حتى لا تصفى الحسابات في اليمن لصالح تسويات «الحوثيين» ومطالبهم الجائرة منذ البداية التي احتلوا فيها «صنعاء». ولم تصلح التسويات طبعاً مع «داعش»، فاتحد العالم أجمع في حلف عظيم لأكثر من 60 دولة صفت حساباتها مع «داعش»، وطبعاً فلا لغة سلمية ممكنة للتسوية مع إرهاب أكل اليابس قبل الأخضر، فلا زالت تصفي بعض الفلول المتبقية في سوريا والعراق وليبيا، ولم نصحُ إلا على صوت انفجار مسجد «الروضة» في سيناء مصر التي استعيدت بالتسوية، والآن جاء دور التصفية لـ«داعش» من هناك. ومن قبل ذلك بأيام صحونا كذلك على صوت صفير الصاروخ الحوثي الإيراني و«حزب الله» الذي سقط في باحة مطار الملك الخالد بالرياض حتى تأتي الدائرة على رأس إيران من لسان الأمير محمد بن سلمان لنقل المعركة لا للتسوية في طهران، بل للتصفية بعد أن عجزت التسويات عن تحقيق أهدافها مع إيران التي تدعم كل حزب للشيطان ينبت في أصل الجحيم. وهو ما جعل حكومة الحريري في لبنان في مرمى التصفيات بعد أن قامت الطائف بالتسويات منذ عقود لصالح السلام هناك، ولكن بعيداً عن أجندة «حزب الله» المرتهن لولاية الفقيه في إيران، فأي تسويات تنفع ها هنا قبل الوصول إلى ساعة التصفيات؟! ولن نترك هذه الساحة حتى نمر على تسويات روسية تركية إيرانية لسوريا لا تعرف من خلالها من يصفي مَنْ، ومَنْ يبقي على شعرة المصلحة وجذوتها متقدة لصالح سوريا المستقبل أم من أجل تصفيات أخرى بسوريا وأهلها. وهكذا نرى أنفسنا أمام عشرات التسويات التي أنتجت تصفيات سياسية بين أطراف الصراع في شرق أوسط لم يحل جديده بعد، ولم يختف قديمه عن الأنظار، فهل لقطار التسويات إيقاف التصفيات أم أن هذه تأكل حصاد الأخرى، وآخر ما صفّت «صالح» اليمن بأسنان حوثية حادت بها نحو المجهول.