من لا يقرأ التاريخ يكرر أخطاءه فيدفع الثمن مضاعفاً مع الفوائد المركبة. وما حدث في حرب الثلاثين عاماً على الأرض الألمانية يتكرر نحوه عندنا هذه الأيام في أيام نحسات. ولأهمية هذا الدرس التاريخي فقد أصدر هيرفريد مونكلر، الباحث الألماني في العلوم السياسية من جامعة «هومبولدت ـ برلين»، بعد دراسة استمرت عشر سنين، موسوعته الضخمة في ألف صفحة عن هذه الملحمة التي غيرت التاريخ الأوروبي، وحفرت أخاديد في الذاكرة الجماعية حتى اليوم. وهذا الكتاب يصدر الآن باللغة الألمانية ويوافق الذكرى 400 لبدء تلك الحرب على الأرض الألمانية. وهو جهد يستحق أن يبذل لأن دروس التاريخ مهمة من أجل فهم الحاضر. يقول الرجل: قد يكون قد مر الكثير على هذه الحرب المدمرة، ولكن ما يعيدها للذاكرة اليوم هو ما يحدث في دول الأطراف؛ فهي تكرر المأساة من جديد، مما يؤكد أن أخطاء الإنسان تتكرر حين لا يستفيد من دروس التاريخ، فيكرر ذات الأخطاء من جديد. لقد انتهى العصر الكلاسيكي لصراعات الدول، وبدلت الحرب ثوبها على نحو دامٍ، كما في حرب سوريا وليبيا وجنوب السودان وبعض الدول الأفريقية. وحرب الثلاثين عاماً التي اندلعت فيها النزاعات بين الكاثوليك والبروتستانت لم تنتهِ مع توقيع صلح ويستفاليا 1648 الشهير. وما حدث درس مهم لأطراف النزاعات التي تجري في منطقتنا، وحسب دراسته فهو يرى أن الحرب والصلح يقومان على حساب الفائدة والخسائر وكذلك مصادر التمويل، ولكن الصراعات الإيديولوجية لا ترى هذا في الحسبة فتمضي بالصراع إلى الاستسلام الكامل للخصم بدون قيد وشرط، وليس ثمة أي مجال للحلول الوسط، وهذا يفسر أيضاً الوحشية التي خاض بها الفريقان الصراع، وهو ما دعا إليه الآباء اليسوعيون حين اشتموا رائحة الصلح، وكذلك رفض البابا «إينوسنت العاشر» لاتفاقية الصلح في أي صورة وشكل كانت فقال: «إنها غير ذات قوة شرعية ملزمة. إنها ملعونة بغيضة. ليس لها أي أثر أو نتيجة على الماضي أو الحاضر أو المستقبل»! وبالطبع فإن مغامرة من هذا النوع أطاحت بعرش البابوية وإلى الأبد؛ فقد أنهى الصلح سيطرة اللاهوت على العقل، وفتح الطريق لحركة العقلانية والتنوير وإن كان الظرف آنذاك غير معبد تماماً؛ فألمانيا احتاجت ثمانين عاماً كي ترمم نفسها، بعد أن بلغت الخسائر ستة ملايين من أصل 16 مليوناً، وتدمير بنية ثمانين ألف قرية ومدينة، والنموذج على ذلك ما فعله الجنرال الكاثوليكي يوحنا فون تيللي حين اجتاح مدينة ماجديبورج فقتل من سكانها عشرين ألفاً دفعة واحدة. ويقول الباحث مونكلر: «لقد امتزجت هنا متعة القتل بالحماس الديني»، ولعلنا نتذكر هنا «داعش» وفظائعه النكراء. وفي ظلال حرب الثلاثين عاماً كان الشاب ينخرط في الجيوش المتحاربة بدل أن يذهب للعمل في الحقل، ولحقت كارثة بالمرأة أيضاً بعد أن لم يبق لها معيل وحامٍ فالتحقت بدورها بالجيوش السارحة على شكل خادمات، وهنا اجتمعت الكارثة الثالثة بتفشي انتقال وباء الزهري من وراء الاغتصابات الجماعية، فاجتمعت على القوم كما جاء في «رؤيا يوحنا اللاهوتي» نهايات العالم الأربع؛ الطاغية والطاعون والطعن والمجاعات فتداعت الخليقة إلى الفناء، ومسحت خرائط كاملة لمدن كانت عامرة بالناس والحياة. أخيراً كان مهندس الصلح «مازاران» رئيس الوزراء الفرنسي وبدأ المؤتمر في نهاية عام 1642 باجتماع 135 لاهوتي وفيلسوف للصياغة الأخيرة لنص الاتفاق، ولكن السفير الفرنسي رفض الحضور إلا أن يخاطب بصاحب الفخامة، وكان يفاوض الإسبان بوسيط ثالث، كما أن الفريق السويدي انشغل بنزاعاته الداخلية مما جعل الملكة كريستينا تخاطبه بأن يحل مشاكله الداخلية قبل مفاوضة العدو، في حين أن البابا رفض الجلوس إلى طاولة واحدة مع «الزنادقة» السويديين، ولم يكن القوم ليوقعوا الصلح المزدوج لولا ضغط الأحداث من هجوم السويد على براغ، واجتياح بافاريا من «تورن»، وهزيمة الإسبان في لينز، ولم توقع على الصلح فرنسا وإسبانيا إلا بعد 11 سنة في عام 1659، في معاهدة «البيرنيه». وانتهت الحرب وعقد الصلح، ولكن النفوس كانت قد أشربت حقداً وغلًا؛ فاستمر مسلسل القتل والعنف، ولم تنخفض وتيرته، ولأن النسل هلك؛ فقد خرج البابا بصك نورمبرج المعروف وفيه شرع وسمح بتعدد الزوجات، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة في تاريخ الكنيسة.