في عالم لا يمكن التنبؤ به، يسر المرء دوما أن يثبت صحة قدراته على التنبؤ. والأزمة السياسية في ألمانيا التي تتمثل في عدم قدرة انجيلا ميركل على تشكيل ائتلاف حكومي يُهمّش اليمين المتطرف في بلادها، تثلج صدور من توقعوا هذا وانتقدوا المستشارة الألمانية وشككوا في هالة زعامتها للعالم الحر. هذه الزعامة ترجع إلى قرار قبولها أكثر من مليون مهاجر إلى قلب أوروبا عام 2015، وهو القرار الذي أشيد به بسبب مثاليته لكنه كان في نهاية المطاف متهوراً ومزعزعاً للاستقرار. لم يوضح إجراء في الآونة الأخيرة الطبيعة غير الديمقراطية التي تسيطر بها برلين على اتخاذ القرار الأوروبي والفجوة بين آراء الصفوة والرأي العام الشعبي مثلما فعل قرار قبول المهاجرين. ولم يساهم إجراء آخر بمثل هذا القدر الكبير في الاضطرابات مثل تفاقم مشكلة الإرهاب في أوروبا وصدمة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت) وظهور دونالد ترامب وتزايد الشقاق بين المحور الألماني الفرنسي في الاتحاد الأوروبي ودول شرق أوروبا. فلا عجب أن تؤثر قضية الهجرة مباشرة على شعبية ميركل وتكلفها أصواتا في الانتخابات الألمانية السابقة وتضيف مكاسب غير مسبوقة لحزب «البديل من أجل ألمانيا» القومي وتجعل إمكانية تشكيل ائتلاف كبير بين الأحزاب مستحيلًا. ويرى المتنبؤون أن قرار ميركل المتهور بشأن المهاجرين ربما هو ما دفع ألمانيا إلى أن تقف حاليا على حافة هاوية. لكن الواقع أن ألمانيا لاتقف على حافة هاوية. بل كل ما في الأمر أن على ألمانيا أن تختار بين انتخابات جديدة قد تؤدي إلى الشقاقات نفسها مع حصول القوميين على ما يتراوح بين 10 و15% من الأصوات وحصول حزب ميركل على أكثرية وبين حكومة أقلية تقودها ميركل نفسها، وهو ما سيكون بدعة في برلين، لكنه أمر طبيعي في الدول الغربية المستقرة الأخرى. وكلا الخيارين يتسبب في مشكلات لم تضطر ألمانيا الحديثة والموحدة إلى التعامل معها لكنها مشكلات معتادة إلى حد كبير في الدول الديمقراطية. ولن يصعد أي من الخيارين بحزب «البديل» إلى السلطة أو يفكك الاتحاد الأوروبي أو يعيد الحياة إلى الاشتراكية القومية. ومع توالي الأزمات السياسية، فإن الأزمة التي تسببت فيها ميركل لبلادها ليست كارثية. ويتعين على من تنبؤوا بفشل ميركل واعترضوا على هالتها الزعامية ألا يدعوا أنها حققت نوعا ما من الكارثة حتى الآن. لقد قدمت ميركل فرصة للزعماء في ألمانيا وفي الغرب أن يتعلموا من أخطائها. وفي ظل كل الحديث عن أزمة الليبرالية الغربية، أظهرت الفوضى السياسية في السنوات القليلة الماضية أيضاً أن كثيرا من الدعاة المفترضين لما بعد الليبرالية غير قادرين فعليا على دفع النظام الليبرالي إلى نقطة الانهيار. فالرئيس دونالد ترامب ليس قويا ومارين لوبان لا تستطيع الحصول على أكثر من 35% من الأصوات في سباق على الرئاسة الفرنسية و«داعش» كادت أن تنتهي. مما يعني أن سدنة النظام الليبرالي المستاؤون من صراعات ميركل الحالية مازال لديهم فرصة لأن يوضحوا خطأ منتقديهم وأن يظهروا أن وجهة نظرهم أكثر قابلية للتكييف مع الظروف المتغيرة مما كانت تبدو عليه. وأظهر منافسو ميركل في أحزاب الوسط السياسي وليس فقط في اليمين المتطرف رغبة في أن يعملوا كما لو أنهم تعلموا دروسا منها وأن يشنوا حملات ويتفاوضوا. وهذا النوع من خلق الأزمات أفضل بكثير من أن يكون هناك ائتلاف كبير من الأحزاب لا تتحد إلا لمناهضة الشعبوية وتصدق تلقائيا على الانتقادات الشعبوية التي تتفق عليها كل النخب. لكن الخطوة المهمة الأولى في ألمانيا التي تحكم بالفعل القارة ستتمثل في أن يدرك عدد أكبر من الناس أنه إذا كان حكم ميركل طويل الأمد مهددا فهذا ليس مؤشرا على أن الليبرالية في أزمة بل مؤشر على أنه يمكن استعادة صحتها. روث دوثات* *كاتب أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»