بات واضحاً منذ بعض الوقت أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ليس مستعداً ولا متحمساً لتقلد دور كبير في زعامة العالم. فتشديده على مقاربة «أميركا أولاً» في العلاقات الدولية يترجَم في أذهان كثير من الناس باعتباره انسحاباً أميركياً من الدور العالمي التقليدي للولايات المتحدة. والمؤشرات على تراجع الزعامة الأميركية يمكن رؤيتها في كل من آسيا والشرق الأوسط وأوروبا. ونتيجة لذلك، بات الزعيم الصيني «شي جين بينغ» يُنظر إليه اليوم باعتباره زعيماً أقوى وأكثر تأثيراً من ترامب. والواقع أن آفاق الزعامة في أوروبا قاتمة أيضا، لكن لأسباب مختلفة. فحتى انتخابات سبتمبر الماضي في ألمانيا، كان يُعتقد أن المستشارة أنجيلا ميركل ستخرج من الانتخابات مرة أخرى منتصرة وقوية وستواصل الاضطلاع بدور الزعامة في أوروبا الذي بدأته في السنوات الأخيرة. إلا أن أداءها الضعيف نسبياً وصعود حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، أرغماها على السعي لتشكيل ائتلاف مع «الديمقراطيين الأحرار»، وهم الذين يعارضون بشدة آراءها الليبرالية بشأن الهجرة. لكن يبدو أنها عجزت عن تشكيل حكومة، وستضطر للدعوة إلى انتخابات جديدة. وهي اليوم في أضعف أحوالها خلال سنواتها الثماني في السلطة. وفي هذا الأثناء، يبدو أن ألمانيا ستنشغل بمشكلتها الداخلية ولن يكون لديها الوقت لقيادة أوروبا، على الرغم من أن ثمة حاجة ملحة لها. وعندما حقّق الزعيم الفرنسي إيمانويل ماكرون فوزاً مذهلاً في الانتخابات الرئاسية في السابع من مايو الماضي، كان يؤمل أن يصبح وميركل الزعيمين الطبيعيين لأوروبا، ويوقفا صعود الأحزاب اليمنية التي أخذت تحرز نتائج جيدة في الانتخابات في الكثير من البلدان الأوروبية، خاصة في شرق القارة. غير أن ماكرون اصطدم بمعارضة قوية من اليسار الفرنسي الذي يناوئ مخططاته الرامية لإصلاح أعطاب الاقتصاد. وفي هذه الأثناء أيضاً، توجد تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، في موقف ضعيف للغاية، بعد أن دعت إلى انتخابات مفاجئة في شهر يونيو الماضي، حيث انتهى بها الأمر إلى خسارة الأغلبية، واضطرارها للدخول في ائتلاف مع «الحزب الوحدوي الديمقراطي» الإيرلندي الشمالي. وعلاوة على ذلك، فإن حياتها السياسية برمتها باتت معلّقة على المفاوضات الصعبة مع الاتحاد الأوروبي حول شروط خروج بريطانيا من الاتحاد. وفضلاً عن ذلك، تتولى حكومتان قوميتان يمينيتان الحكم في كل من المجر وبولندا، بينما تواجه إسبانيا أزمة حول مستقبل إقليم كتالونيا، ذلك أن الكثير من الكتالونيين يسعون إلى الاستقلال، أو مزيد من الحكم الذاتي والاستقلالية عن مدريد، وهو ما سيؤشر إلى مزيد من القطيعة مع «الفكرة الأوروبية». وبالتالي، فليس مفاجئاً تحت هذه الظروف أن يرى زعماء طموحون، مثل الروسي فلاديمير بوتين وملالي إيران والرئيسين التركي والصيني، فرصاً للدفع بمصالحهم في المنطقة التي كان الغرب صاحب النفوذ الوحيد فيها حتى الأمس القريب. ولعل الشرق الأوسط خير مثل على كيف أخذ غياب دور غربي قوي يؤثّر على الأوضاع السياسية في المنطقة. فمما لا شك فيه أن الولايات المتحدة ما زالت نظرياً القوةَ العسكرية الأقوى في المنطقة، لكن هذه القوة ترتكز في المقام الأول على القوتين الجوية والبحرية. ذلك أن القوة البرية الأميركية في المنطقة باتت اليوم مقتصرة على المستشارين والقوات الخاصة. وبالمثل، ما زال لدى بريطانيا وفرنسا أدوات بحرية وجوية مهمة تستطيعان استخدامهما في المنطقة، لكنهما لا تميلان على ما يبدو إلى تعميق انخراطهما في أزماتها. وبالنسبة لفرنسا، فإن الفوضى والأزمات في شمال أفريقيا ووسطها هي أولويات أكبر وأولى. وفي هذه الأثناء من الخطأ تجاهل النجاح الذي حققته كل من روسيا وإيران في الدفع بمصالحهما ونفوذهما في سوريا. ذلك أن إيران باتت اليوم في موقف أقوى في العراق مما كانت عليه لعقود سابقة. وتدخّلها في اليمن جرّ إلى حرب وحشية هناك لا تلوح لها نهاية في الأفق. وعلاوة على ذلك، تظل إيران لاعباً مؤثراً في أفغانستان، حيث تتواصل الحرب الأهلية. وعلى هذه الخلفية، يريد بعض المحللين والسياسيين في الولايات المتحدة وإسرائيل والخليج من واشنطن أن تكثّف ضغوطها على إيران بسبب سلوكها. غير أنه بين معظم المحللين في واشنطن ليست ثمة رغبة في أزمة عسكرية في الشرق الأوسط طالما أن الوضع في شبه الجزيرة الكورية خطير جداً وقابل للانفجار، ولا حتى من قبل دونالد ترامب.