يدخل مبدأ «الحكم بما أنزل الله» في تركيبة مشروع إعادة الخلافة، وفي نظرية الحاكمية، وفي تكفير الأنظمة والدول، وفي وصم المجتمعات بالجاهلية، وفي رفض تجديد الخطاب الديني، وفي كراهية القوانين، وفي الاعتقاد بواجب غزو العالم، فكل هذه المشاريع والاعتقادات والتصوّرات تستند ضمن ما تستند على مبدأ «الحكم بما أنزل الله». ومراد الإسلاميين من «ما أنزل الله» هو أحكام الشريعة، ولا فرق عندهم بين الأمرين حتى لو كان مؤدى ذلك نسبة التناقض إلى الله تعالى، ذلك أن وجود الولي في الزواج من أحكام الشريعة، وعدم وجوده أيضاً من أحكام الشريعة.. وهكذا عشرات المئات من الأحكام المتناقضة بسبب اختلاف الفقهاء في اجتهاداتهم، لكن الإسلاميين يعرّفون كل ذلك بأنه منزّل من عند الله. أحكام الشريعة، في جانبها الذي يتعلق بالعلاقات بين الأفراد والجماعات تنقسم إلى قسمين، أحكام مستفادة من النص دون بحث، كتحريم الأمهات والبنات والأخوات استناداً إلى آية قرآنية، وأحكام مستفادة من النص القرآني أو النبوي بحسب ما فهم الفقيه، أي أن الفقيه بحث في النص واستخرج الحكم، وعلى الرغم من أن القسم الثاني أكثر بكثير من القسم الأول، فقد أطلقوا على القسمين معاً مسمى «أحكام الشريعة». وفي الخطوة الثانية رفعوا ما توصل إليه الفقهاء إلى مصاف ما نزل من عند الله، ولعلّ عبدالقادر عودة أهم من مارس هذا الخلط العجيب عبر كتابه الشهير «التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي»، حيث ذكر فيه خصائص الشريعة من دون أن يضع أي اعتبار إلى أنه يتحدث عن منظومة أحكام، القليل منها إلهي بشكل واضح، والكثير منها اجتهاد بشري، فوصفها كلها جملة وتفصيلاً بأنها من عند الله الذي أتقن كل شيء خلَقه، وأن تلك الأحكام تتجلى فيها قدرة الخالق وكماله وإحاطته، وليست من ثم في حاجة للتغيير والتبديل مهما تغيرت الأوطان والأزمان، إلى درجة أنه قال بالنص: «تولى الله جلّ شأنه وضع الشريعة، وأنزلها على رسوله». و«عودة» هنا، فضلاً عن خلطه بين القرآن الكريم الذي هو كلام الله المنزل على رسوله، وبين أحكام الشريعة التي لم تنزل كلها من السماء، بل ما نزل منها قليل مقارنة بالكثير الذي كان فهماً واجتهاداً واستنباطاً من بشر.. خلع على الفقهاء صفات القدرة والكمال والإحاطة من حيث لا يدري، وساوى بشكل ضمني بين ما توصلوا إليه وبين إتقان الله خلق كل شيء. وحاول بعضهم الاعتذار عن اختلاف الفقهاء بالقول إنه اختلاف تنوّع، لكن القضية ليست في أنواع الاختلاف ولا في أسبابه، وإنما في تصوير ما توصلوا إليه كأنه منزل من عند الله، ثم إضفاء معاني الإتقان والكمال والعظمة إليه، حتى صارت آراء الفقهاء مثل خلق السماوات والأرض! مفاهيم كثيرة تسبّبت في عرقلة تقدم المسلمين، وفي معاداتهم لغيرهم، وفي سفك دماء بعضهم بعضاً، وفي تمزيق مجتمعاتهم، استندت إلى تلاعب بالألفاظ وخلط للأوراق، واعتبار أن آراء الفقهاء منزلة من عند الله مثل القرآن الكريم تماماً. ----------------- *كاتب إماراتي