أكبر خطأ يمكن ارتكابه في فك طلاسم الأزمة اللبنانية التي نشبت الأسبوع الماضي، هو أن نعتبرها مجرد أزمة داخلية لدولة عربية أخرى، وبالطبع فإن عناصر الخلاف الداخلي موجودة، حالياً كما في الماضي، لكن الأزمة الحالية مرآة لأزمة منطقة أكثر من انعكاس لأزمة بلد. تعددت الخلافات في لبنان على مر تاريخها، ووصلت إلى الحروب الأهلية في الخمسينيات كما في السبعينيات وما بعدها، كما تعددت صور التدخل العسكري المباشر، سواء من جانب سوريا أم من جانب إسرائيل، بل يبدو حسب نظرية حديثة -وهي «البجعة السوداء لشرح النتائج غير المتوقعة»- أن تعدد الأزمات أعطى ميزة لهذا البلد، جعلته قادراً على تطوير منهجيته الخاصة لمواجهة الأزمات والسيطرة عليها، أي أنه أصبح مدرباً، وذلك تطبيقاً للمثل الإنجليزي الشهير: إن الأزمة التي لا تقتلك تقويك، إذ تصبح في هذه الحالة رصيداً من الحنكة والخبرة. وهل كان أحد يتصور، قبل انتخاب الرئيس الحالي ميشيل عون في أكتوبر 2016، يعيش بلد لمدة 29 شهراً من دون رئيس؟! الأزمة التي بدأت الأسبوع الماضي ذات طابع خاص، فقد أعلن رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته على قناة «العربية»، وليس عبر المذياع أو التليفزيون اللبناني، كما أن إعلان هذه الاستقالة جاء وهو في الرياض وليس في بيروت. صحيح أن الحريري، مثل والده مزدوج الجنسية، لكنه بخلاف والده، مولود في السعودية، ومع ذلك فإن إعلان الاستقالة من خارج البلاد مثل سلوكاً غير نمطي. وقد جاء تبرير الحريري لقرار استقالته بالقول إنه خائف على حياته وهو في لبنان، وألمح بالطبع إلى اغتيال والده في سنة 2005، حيث لا يزال الجناة إلى الآن خارج السجون رغم قرارات لجنة التحقيق الدولية. أهم أساس للأزمة الحالية إذن ليس هو عدم اطمئنان رئيس الوزراء إلى قدرة الدولة اللبنانية على حماية حياته، ولكن حقيقة أن أحد الشركاء في الحكومة الحالية، وهو «حزب الله»، هو مَن يخطط لاغتياله، والإشارة أيضاً إلى أن هذا الشريك اللبناني في الحكم (وهذه حقيقة معروفة) يأتمر بأمر دولة أجنبية هي إيران.. لذلك فالأساس ليس الخلافات السياسية، التي يمكن تسويتها عن طريق الأخذ والرد، وإنما الأسباب الأيديولوجية. أزمة لبنان الحالية، ما هي إذن إلا قمة جبل الثلج العائم، فهي وثيقة الارتباط بما يحدث في سوريا حيث توجد ميليشيات «حزب الله» وبعض عناصر الحرس الثوري الإيراني، وكذلك ما يحدث في اليمن، أي الفناء اللصيق بالأراضي السعودية ومسرح الحرب التي يخوضها التحالف العربي ضد الانقلاب الحوثي هناك منذ مارس 2015، ثم التصعيد الأخير جراء الصواريخ التي استهدفت الأراضي السعودية وتم التصدي لها قبل أن تصل المدن السعودية. الأزمة اللبنانية هذه المرة تختلف عن سابقاتها من الأزمات الأخرى، في كونها معقدة ومركبة من عوامل داخلية وخارجية، جيوسياسية ومذهبية، بل حتى سيكولوجية، حيث لا يود الابن تكرار مأساة ونهاية أبيه. كيف ستفلت لبنان والمنطقة من هذه الأزمة؟ وهل سيتم تأكيد فرضية البجعة السوداء في أن الأزمة تعليم وتدريب على مواجهة غير المتوقع، وبالتالي تُضيف إلى هذا الرصيد اللبناني؟ وبأي ثمن يكون ذلك؟