تشهد مدينة «بون» الألمانية منذ يوم الاثنين الماضي، ولمدة اثني عشر يوماً، فعاليات واجتماعات مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بالتغيرات المناخية، والمعروف اختصاراً بـ(COP23). ويعقد هذا المؤتمر على خلفية تقرير صدر مؤخراً عن المنظمة الدولية للأرصاد الجوية، ذكر فيه علماء المنظمة أن متوسط درجات الحرارة خلال العام الحالي، ستكون من بين أعلى متوسطات درجات الحرارة المناخية على الإطلاق، ولذا خلال جلسات المؤتمر في الأيام القليلة الماضية، اتفقت آراء المشاركين واتحدت أصواتهم في المطالبة بضرورة الالتزام ببنود وتعهدات «اتفاقية باريس» للتغيرات المناخية. وتأتي هذه المطالبات قرب نهاية عام اتسم منذ بدايته بأعاصير مدمرة، وحرائق واسعة النطاق، وفيضانات عارمة، وفترات قحط طويلة، وذوبان جليد القطبين وقمم الجبال، في مختلف مناطق العالم وقاراته، مع آثار فادحة على القطاع الزراعي هدد الأمن الغذائي للعديد من الشعوب والمجتمعات. وتتمركز تلك المطالبات حول ضرورة تفعيل بنود «اتفاقية باريس» التي اعتُمدت ضمن مؤتمر الأمم المتحدة للتغيرات المناخية (COP21) عام 2015، لتشكل حينها نقطة مفصلية في الاستجابة العالمية للتغيرات المناخية. ومع حلول شهر نوفمبر من العام الماضي، دخلت هذه الاتفاقية حيز التنفيذ، بعد أن وقعها 195 دولة من دول العالم، باستثناء دولتين حينها، هما نيكاراجوا وسوريا، وقبل أن تغير الولايات المتحدة من موقفها تجاه هذه الاتفاقية بعد تولي «دونالد ترامب» لمقاليد الحكم بداية العام. وعلى حسب بعض التقارير التي تناقلتها وسائل الإعلام منتصف الأسبوع الجاري، تعتزم الحكومة السورية أيضاً التوقيع على الاتفاقية، لتكتمل العزلة الدولية للولايات المتحدة تجاه هذه القضية، باستثناء نيكاراجوا. وبعيداً عن الجوانب الاقتصادية، والبيئية، والسياسية، والأمنية، والاجتماعية، للتغيرات المناخية، تحمل هذه القضية جانباً صحياً بالغ الأهمية، يتجسد في تبعات تلك التغيرات على حجم العبء المرضي، وعلى معدلات الوفيات بين أفراد العديد من الشعوب والمجتمعات. ولذا، وبالتزامن مع مؤتمر الأمم المتحدة للتغيرات المناخية، يعقد في «بون» مؤتمر موازٍ بعنوان «قمة المناخ والصحة» (Climate and Health Summit 2017). وبما أن أكثر من نصف سكان العالم يقطنون حالياً في مدن، ضمن ظاهرة «التمدين»، مع تواتر التوقعات بأن تصل هذه النسبة إلى الثلثين بحلول عام 2050، تفرض التغيرات المناخية تهديدات ومخاطر متباينة بين المجتمعات المختلفة، وداخل المجتمع الواحد، وهو ما يتطلب بالضرورة أن تُفصّل الاستجابة لتلك التهديدات والمخاطر بشكل يأخذ في الاعتبار الظروف المحلية، والقضايا الصحية الخاصة، وقدرة وكفاءة نظام الرعاية الصحية على الاستجابة لتلك التحديات. فبخلاف الإصابات والإعاقات التي تنتج عن الأعاصير المدمرة، وعن حرائق الغابات والمناطق الطبيعية، وعن الفيضانات، أو المجاعات وأمراض سوء التغذية الناتجين عن فترات القحط والجفاف، تؤثر التغيرات المناخية على (بروفيل) الأمراض، من حيث مدى ونطاق انتشارها، ومعدلات الإصابات والوفيات الناتجة عنها. فبالإضافة للسماح للميكروبات بغزو مناطق جديدة، يتيح مثلاً الاحتباس الحراري غزو الحشرات الحاملة لبعض الأمراض لمناطق كانت مستعصية عليها سابقاً، وتوسيع مدى نطاق انتشارها. أفضل مثال على ذلك هو البعوض الناقل للملاريا، فالمعروف أن الدفء يزيد من معدلات تكاثر البعوض، ويفتح شهية أفراده للمزيد من وجبات الدماء، ويطيل من موسم التزاوج والتكاثر، وفي نفس الوقت يقصر من الفترة اللازمة للميكروبات التي يحملها في لعابه للوصول إلى درجة النمو الكامل والانتشار من شخص إلى آخر، أي أن دفء المناخ يماثل جرعة منشطة لمجتمعات البعوض، تزيد من أعدادها وتفتح من شهيتها، بالإضافة إلى تعاظم قدرتها على نقل الأمراض. ولا يقتصر التأثير الصحي للتغيرات المناخية على انتقال الأمراض المعدية فقط، فحسب وثيقة صدرت عن منظمة الصحة الدولية قبل أكثر من عقد، تتعدد الجوانب السلبية للتقلبات المناخية قصيرة الأمد، على الصحة والسلامة البشرية. فمثلاً يؤدي التباين الشديد في درجات الحرارة إلى العديد من الاعتلالات القاتلة، مثل الإجهاد الحراري والانخفاض الشديد في درجة حرارة الجسم، بالإضافة إلى زيادة معدلات الوفيات من جراء أمراض القلب والجهاز التنفسي. بينما يؤدي السكون الشديد للظروف المناخية، وخصوصاً فوق وحول المدن، إلى ارتفاع تركيز الملوثات العالقة في الهواء، واستقرار سحب الدخان والغبار، وهو ما يترافق مع آثار صحية سلبية. هذه الأمثلة، وغيرها الكثير، تُظهر مدى الترابط الوثيق بين التغيرات المناخية وبين الصحة البشرية، والتي قد ينتج عنها عواقب وخيمة تحمل في طياتها ثمناً إنسانياً فادحاً.