بعد سنوات من الآن، قد يدرس المؤرخون وثائق الاتهامات الموجهة لبول مانافورت من أجل فهم الكيفية التي تمت بها «رَوْسنة» (نسبة إلى روسيا) الحياة العامة الأميركية. فمانافورت قام، على ما يفترض، بغسيل الأموال، والغش بخصوص الضرائب، والكذب بشأن زبائنه. وقد قام بكل هذه الأشياء من أجل «التمتع بحياة باذخة في الولايات المتحدة»، وفق صك الاتهام. ومن بين أمور أخرى، قام مانافورت، على ما يفترض، بإنفاق مليون و319 ألفاً و281 دولاراً من أموال، كانت مخفية بشكل غير قانوني عن وزارة الخزانة الأميركية، من أجل شراء شركة إضاءة وتسلية منزلية بفلوريدا، واقتناء ما يعادل 934 ألفاً و350 دولاراً من السجاد في محل تجاري في فرجينيا، وإنفاق 655 ألفاً و500 دولار على مبنى بنيويورك. البعض يجد في هذا ما يبعث على السخرية، كون مانافورت فعل كل هذا أثناء تقلده مهمة تقديم النصح والمشورة للمرشح دونالد ترامب لخوض حملة انتخابية «مضادة للنخبة»، حملة تبتغي «تجفيف المستنقع» وتطهير واشنطن. ولكن، في الحقيقة، هذا بالضبط هو نوع التكتيكات التي تعلّم مانافورت إجادتها وإتقانها نيابة عن روسيا، في أوكرانيا، التي اشتغل فيها لأكثر من عشر سنوات. مانافورت تلقى دعوة أول مرة للعمل في أوكرانيا في 2004، من قبل الأوليجارشي الروسي أوليغ ديريباسكا. ولكن مانافورت ترك أثراً حقيقياً في 2006، عندما استقدم عشرات المستشارين السياسيين الأميركيين إلى أوكرانيا للمساعدة في انتخابات مشحونة إثنيا جمعت المتحدثين بالروسية والمتحدثين الأوكرانية، وذلك في محاولة لمساعدة روسيا على الإبقاء على نفوذها في البلاد. وفي 2008، ساهم في إدارة حملة مضادة للناتو تعارض عضوية أوكرانيا في التحالف العابر للأطلسي. وفي 2010، كان مانافورت واحداً من عدة مستشارين – الآخرون كانوا في معظمهم من الروس – ساعدوا على إعادة صنع صورة فيكتور يانوكوفيتش، السجين السابق الذي دعمته الحكومة الروسية ليصبح رئيساً لأوكرانيا، واتهم الحكومة بالفساد، وقال إن الانتخابات ستتعرض لـ«التزوير» ثم فاز في الأخير. كل هذه التجربة كانت مفيدة في 2016. استغلال التوتر الإثني، وكره الناتو، والحديث المستمر عن فساد الخصوم، سواء كان مبرراً أم لا، والصراخ حول تزوير الانتخابات – وقد كانت تلك تكتيكات ترامب أيضاً. ولكن هناك عدة أشياء أخرى حول يانوكوفيتش - الذي فر من بلده في النهاية - التي تشكّل تحذيراً. فقد كان مرشحاً «مناوئاً للنخبة» ولكن تبين أنه أكثر فساداً بكثير من النخبة الموجودة. واستغل منصبه للكسب الشخصي. كما سعى إلى تقويض الدستور الأوكراني، بشكل مستتر في البداية ثم بشكل صريح لاحقاً. لائحة الاتهامات التي نُشرت أول أمس، لا تتحدث عن مانافورت كحلقة بين حملة ترامب والحكومة الروسية، وإنْ كانت تقول إنه انتهك قوانين أخرى. غير أن هذه العلاقة تظهر بوضوح في القصة الخبرية الثانية ليوم الاثنين: الكشف عن أن جورج بابادوبولوس، أحد مستشاري ترامب للسياسة الخارجية، كان يعرف أن قراصنة روس هاجموا حملة كلينتون قبل وقت طويل على ذيوع الخبر؛ فمنذ مايو 2016، كان يعرف أن روسيا تملك «معلومات ضارة» حول كلينتون. ولكن حتى إذا لم يكن توجيه الاتهام رسمياً لمانافورت يمثّل دليلاً دامغاً على وجود علاقة، فإنه يخبرنا بشيء مهم. ذلك أنه منذ وقت طويل، يقوم جزء من الطبقتين السياسية والاقتصادية الأميركيتين بالاندماج أيديولوجيا وجمالياً مع نظيرتيهما في روسيا بعد الاتحاد السوفييتي. استخدام الشركات الوهمية، والحسابات المصرفية في قبرص؛ والإنفاق الباذخ على الملابس والمنازل؛ والاستغلال اللئيم للانقسامات الإثنية أو العرقية للفوز في الانتخابات.. فهذه السلوكات باتت اليوم شيئاً معتاداً بالنسبة لمجموعة معينة من المناورين على القارتين. وإذا ثبتت صحة هذه الاتهامات، فإن مانافورت هو التجسيد الحي لهذا الاندماج والتلاقي الروسي- الأميركي. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»