يختص الطب البيئي بالجمع بين معارف الطب الحديث بشكله التقليدي، وبين العلوم البيئية، وعلم الكيمياء، وبعض العلوم الأخرى مثل الباثولوجي أو علم الأمراض، وهو ما يجعل الطب البيئي ممثلاً عن العلوم الطبية ضمن مفهوم «الصحة البيئية» الأوسع مدى ونطاقاً. ويركز الطب البيئي في شكله الحالي، على دراسة التفاعل بين البيئة وصحة الإنسان، وبالتحديد دور البيئة في خفض أو زيادة احتمالات الإصابة بالأمراض. ويعتبر هذا التخصص الطبي مجال شد وجذب بين الأطباء والسياسيين، نتيجة تركيزه وتأكيده، على أن صحة الإنسان تتأثر بشكل عميق بالعوامل البيئية، وخصوصاً السموم والتلوث، وبقدر أكبر مما كان معتقداً في السابق. وهذا التأثير العميق اتضح مؤخراً مدى فداحته، من نتائج دراسة نشرت في العدد الأخير من إحدى أشهر وأعرق الدوريات الطبية في العالم (Lancet)، ربطت بين التلوث -بجميع أنواعه- وبين 9 ملايين وفاة في عام 2015. وللأسف، وقع السواد الأعظم من هذه الوفيات بين شعوب ومجتمعات الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل، إلى درجة أن بعض التقديرات تشير إلى أن واحدة من كل أربع وفيات تقع في تلك الدول، تكون بسبب التلوث بشكل مباشر أو غير مباشر. وبوجه عام، وفي جميع الدول دون استثناء، ومن بين أنواع التلوث المختلفة والمتعددة، يعتبر تلوث الهواء هو المتهم الأكبر، حيث يعتبر مسؤولاً عن ثلثي إجمالي ملايين الوفيات تلك. وتتعدد وتتنوع أسباب تلوث الهواء، فبعضها ناتج عن ظواهر طبيعية مثل العواصف الترابية، والنشاطات البركانية، وحرائق الغابات، وإن كانت النشاطات البشرية تعتبر هي المسؤول الأول عن تلوث الهواء، وخاصة في المدن. وهذا التلوث الناتج عن النشاط البشري، قد يكون من مصادر ثابتة، مثل محطات إنتاج الطاقة التي تعتمد على حرق الفحم، أو بقية أنواع الوقود الأحفوري، أو من مصادر متحركة، مثل الأنواع المختلفة لوسائل المواصلات، بما في ذلك السيارات، والطائرات، والبواخر، وتحتل عوادم السيارات مكانة خاصة على قائمة أسباب تلوث الهواء الخارجي، نتيجة احتوائها على كوكتيل من الغازات والمواد الكيماوية السامة التي تدخل إلى مجرى الدم، ومن ثم إلى معظم أعضاء الجسم بعد استنشاقها بفترة قصيرة. وبناء على أننا جميعاً نستنشق نفس الهواء، وأن التلوث لا يعترف بالحدود الجغرافية أو السياسية، يصبح تلوث الهواء مشكلة صحية دولية بكل المقاييس. وبالنظر إلى حجم الوفيات السنوي، أو ثلثي إجمالي الوفيات الناتجة عن التلوث حسب الدراسة الأخيرة، وأضعاف ذلك من الإعاقات والأمراض المزمنة، يصبح من السهل أن ندرك ضخامة حجم العبء المرضي الناتج عن تلوث الهواء، حيث تظهر الأرقام والبيانات الحديثة على وجه الخصوص، علاقة قوية، وارتباطاً شديداً، بين التعرض للهواء الملوث -داخل المنازل وخارجها- وبين الإصابة بأمراض القلب والشرايين، مثل الذبحة الصدرية الناتجة عن مرض الشرايين التاجية المغذية للقلب، والسكتة الدماغية الناتجة عن مرض الشرايين المغذية للمخ، هذا بالإضافة إلى الدور المهم الذي يلعبه تلوث الهواء في الإصابة بالأمراض التنفسية، بما في ذلك العدوى التنفسية الحادة، والانسداد الرئوي المزمن. ويعتبر تلوث مياه الشرب أيضاً من أخطر وأهم أنواع التلوث على الإطلاق، حيث يقدر أن تلوث المياه يؤدي إلى نحو 14 ألف وفاة يومياً، غالبيتها نتيجة تلوث مياه الشرب بالمخلفات البشرية، وخصوصاً في الدول النامية والفقيرة. فعلى سبيل المثال، لا تتوافر مراحيض لحوالي 700 مليون شخص في الهند، ولذا يتوفى ألف طفل هندي يومياً، بسبب أمراض الإسهال. وبالإضافة إلى الجانب الصحي وما ينتج عنه من وفيات، يحمل التلوث أيضاً تأثيرات سلبية عدة، مختلفة ومتباينة، مثل الجانب الاقتصادي، الذي قد ينتج مثلًا عن تلوث مياه نهر ما، مما يعيق استخدامه كمصدر لمياه الشرب، أو للنشاطات الزراعية، أو حتى للاستخدام في النشاطات الصناعية. كما يمكن للتلوث أن يؤدي إلى تأثيرات بيولوجية سلبية، تتمثل في انقراض بعض أنواع الكائنات الحية، وانخفاض مدى ونطاق التنوع الحيوي في بيئة ما. وإذا ما أضفنا للتبعات الصحية والوفيات الناتجة عن التلوث البيئي التأثيرات الاقتصادية السلبية، وبعض التبعات الاجتماعية والسياسية الأخرى، يصبح التلوث أحد أهم القضايا الصحية والاقتصادية في العصر الحديث، وخصوصاً في الاقتصادات متسارعة النمو حالياً. وبخلاف هذه الدول، وضمن بقية الدول النامية والفقيرة، تتعاظم أيضاً مشكلة التلوث وتبعاته، نتيجة غياب الرقابة الفعالة، وضعف الإجراءات والقوانين المنظمة، وشح المصادر المالية المخصصة لتخفيف ومحو آثاره.